سمحت الترسانة القانونية السائدة، حتى الآن، على الصعيد العالمي، للشركات المتعدّدة الجنسيات، بالإعلان عن أرباحها في البلدان التي تتّبع نظاماً ضريبياً مُخفَّفاً على الأرباح، ما أتاح لها عدم دفع نسبة عادلة منها. غير أن الإنفاق المرتبط بالأزمة الصحّية التي سَبّبتها جائحة «كورونا»، أدّى إلى عجز كبير في ميزانيات دول العالم، وأجبر هذه الأخيرة على مراجعة أنظمتها الضريبية. وبينما قرّرت الولايات المتحدة، في عهد دونالد ترامب، عدم فرض ضرائب على شركات عملاقة كـ«غوغل» و«أمازون» و«فايسبوك» و«آبل» و«مايكروسوفت»، ما أفضى إلى اجتذاب 4 مليارات دولار نحوها، تراجعت إدارة جو بايدن عن هذه السياسة، للحدّ من عجز الميزانية الأميركية عبر زيادة الضرائب. لم تخشَ تلك الإدارة منافسة في الحقل الضريبي من قِبَل دول أميركا اللاتينية أو الدول الأوروبية، وباتت المُدافع الأوّل عمّا يُسمّى «مشروع إصلاح النظام الضريبي العالمي».يستند هذا المشروع إلى ركيزتَين أساسيتَين. الأولى هي فرض ضرائب على الشركات المتعدّدة الجنسيات في البلدان التي تُحقّق فيها أرباحها، لا في تلك التي تعلن فيها عن هذه الأرباح، ما يعني أن وجود الشركات المباشر في أيّ بلد من البلدان لم يَعُد شرطاً لخضوعها للنظام الضريبي. لكن هذا القرار لا يشمل سوى الشركات التي يَبلغ حجم تعاملها المالي 20 مليار دولار، وبشرط أن تصل نسبة أرباحها في الحدّ الأدنى إلى 10% سنوياً. وإذا كانت هذه المعايير لا تنطبق على العديد منها، كـ«أمازون» مثلاً، ما يثير الدهشة، فإن عمالقة الفضاء الرقمي، كـ«فايسبوك» و«غوغل»، ومجموعات كـ«لوريال» و«أل. في. أم. أش»، تدخل في الفئة التي تخضع للنظام الضريبي الجديد.
الركيزة الثانية تتيح فرض ضريبة بنسبة 15% على جميع الشركات المتعدّدة الجنسيات، مهما كانت البلدان التي تعمل فيها، لضبط استفادتها من «الميزات التفاضلية» في الميدان الضريبي. يسمح هذا الأمر للبلدان التي تتّبع نظاماً ضريبياً مرتفعاً باستعادة عوائد ضريبية من البلدان التي تسود فيها نسب أقلّ من 15%، ما يعني أن شركة فرنسية كـ«لوريال»، التي استقرّت في مدينة دبلن في إيرلندا، حيث تصل نسبة الضريبة إلى 12.5%، ستضطر لدفع 2.5% لفرنسا. ليس من المستغرب في مثل هذه الحالة أن تُعارض دول كإيرلندا والمجر وإيستونيا، يسود فيها نظام ضريبي منخفض، «مشروع الإصلاح» الذي حظي بموافقة 131 دولة. وبحسب تقديرات الخبراء الاقتصاديين، فإن ذلك المشروع سيُمكّن الولايات المتحدة من الحصول على 15 مليار دولار، وألمانيا على 8 مليارات، وفرنسا على 6 مليارات. لكن مجموعة أخرى من الاقتصاديين ترى أن تلك المبالغ متواضعة، ولن يكون لها الأثر المرجوّ في معالجة العجز في الميزانية في البلدان المعنيّة. فجوزيف ستيغليتز مثلاً، في مقال على موقع «بروجكت سنديكيت»، يعتقد أن المبالغ المشار إليها «محدودة جداً، ولا تصل إلى المستوى الضخم، أي 240 مليار دولار، الذي يبقى بعيداً عن المنال. إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من البلدان النامية والأسواق الناشئة لن تحصل سوى على النزر اليسير من هذه العوائد».
ما يخشاه اقتصاديون هو أن يتحوّل معدّل الحدّ الأدنى الضريبي إلى معدّل الحدّ الأقصى


من جهة أخرى، يحذر اقتصاديون من انعكاسات سلبية لـ«مشروع الإصلاح»، من زاوية الفوارق العميقة بين الشركات المتعدّدة الجنسيات وتلك الصغيرة والمتوسّطة.
ففي مقال نُشر في «اللوموند»، دان الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، منْح الشركات الكبرى الحقّ في دفع نسبة أقلّ من أرباحها، مقارنة بالصغيرة والمتوسّطة التي لا تستطيع إقامة فروع لها في إيرلندا أو لوكسمبورغ. «بالنسبة إلى الشركات الصغيرة والمتوسّطة، وكذلك بالنسبة للطبقات الشعبية والوسطى، من المستحيل افتتاح أفرع خارج الحدود، خاصةً في جنّات ضريبية، لدفع نسبة منخفضة من الضرائب. وإذا حسبنا الضريبة على الدخل والأرباح، إضافة إلى اقتطاعات الضمان الاجتماعي، فإن العمّال والموظّفين، وكذلك الشركات الصغيرة والمتوسّطة، يدفعون، في جميع بلدان مجموعة الدول الـ7، نسباً تفوق الـ15%: في الحدّ الأدنى 20 إلى 30%، وأحياناً 40 إلى 50%»، وفقاً لهذا الاقتصادي. ويعتبر بيكيتي أنه من خلال القبول بإعلان الشركات المتعدّدة الجنسيات عن أرباحها في البلدان التي تختارها، خاصة في الجنّات الضريبية، مقابل دفع نسبة 15% من أرباحها، تتمّ شرعنة «واقع دفع الأوليغارشية ضرائب أقلّ من التي تدفعها عامة الشعب». وهو استنتاج يشاطره فيه ستيغليتز، من خلال اتهامه السياسة الضريبية لدول كإيرلندا بأنها «أنانية ولا أخلاقية»، ومطالبته بضريبة تصاعدية تتجاوز الـ15% على الشركات التي «تحتكر قطاعات بعينها من الاقتصاد وتُحقّق أرباحاً مهولة». ما يخشاه هؤلاء الاقتصاديون هو أن يتحوّل معدّل الحدّ الأدنى الضريبي، أي الـ15%، إلى معدّل الحدّ الأقصى بالنسبة إلى الشركات المتعدّدة الجنسيات، وأن يُفرّغ «مشروع الإصلاح الضريبي» من مضمونه، المستند أساساً إلى السعي لتصحيح الاختلالات العميقة التي يعاني منها العالم.