لندن | تُواجه هايتي، التي تتقاسم مع جمهورية الدومينيكان جزيرة في قلب بحر الكاريبي، أزمة سياسية خطيرة ومتصاعدة. إذ تستمرّ الاحتجاجات الشعبية الواسعة منذ منتصف عام 2018، عندما خرج قرابة مليونَي مواطن من أصل 11 مليوناً، عدد سكّان الجزيرة، إلى الشوارع، مطالبين بالحدّ من رفع أسعار النفط والغاز نتيجة لسياسة التقشُّف التي فرضها «صندوق النقد الدولي» على البلاد، ومعاقبة المسؤولين الحكوميين الذين اختلسوا مليارات الدولارات من البرنامج الفنزويليّ لإمداد شعوب منطقة الكاريبي بنفط منخفض التكلفة (بِمَن فيهم الرئيس جوفينيل مويز نفسه الذي ثَبت اختلاسه لـ 700 ألف دولار أميركي)، وتوفير الإمدادات الاستهلاكية الأساسية للمواطنين المُعدَمين. ودائماً ما يتمّ قمع هذه الاحتجاجات بالعنف الشديد، الذي تُشارك فيه أحياناً قوات الأمم المتّحدة، التي تؤدي دور احتلال أجنبي (بلغ تعدادها لغاية 2017 حوالى 5000 من الجنود ورجال الشرطة، كان منهم 2200 من الجيش البرازيلي، وما يزيد على 1000 من الجيش الأردني، تورّطوا في جرائم قمع وقتل واغتصاب أحرجت المنظّمة الدولية، ما استدعى استبدال قوّة بحدود الـ 1500 جندي حالياً، بهم).
وتصاعدت الأزمة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعدما تمنّع مويز عن التخلّي عن منصبه مع انتهاء ولايته الدستورية في السابع من شباط/ فبراير الماضي. وبدلاً من إجراء انتخابات جديدة أو التنحّي، يستمرّ مويز معتمِداً على دعم الولايات المتحدة في الإمساك بمقاليد الحكم في الجزيرة الكاريبية التي تعاني فقراً مدقعاً، ولم تتعافَ بعد من الآثار المدمّرة لكارثة زلزال 2019، وهو ما تسبّب بموجة جديدة أعنف من الاحتجاجات. وأعلنت واشنطن، التي طالما تَسبّبت سياساتها لشعب هايتي بالمآسي، أنها ستواصل الاعتراف بمويز كرئيس شرعي. وبادرت إدارة الرئيس جو بايدن، فور تنفيذ الطبقة العاملة الهايتيّة إضراباً عامّاً شاملاً الشهر الفائت للمطالبة برحيل مويز، إلى الإعلان أن الأخير له الحق في البقاء في السلطة حتى عام 2022 على الأقلّ.
وكان مويز قد فاز بالرئاسة في انتخابات مشكوك في نزاهتها، شارك فيها أقلّ من 18 في المئة من الناخبين المسجَّلين. وهو لجأ أخيراً إلى تعيين مجلسه الانتخابي الخاص، ولجنته الخاصة لتعديل الدستور. كما عزّز علاقاته مع الإدارة الأميركية السابقة، من خلال دعم خطط واشنطن لتغيير النظام في فنزويلا. وبينما يستمرّ في تجاهُل معاناة الهايتيين، الذين هم أشدّ الشعوب في الأميركيتين فقراً على الإطلاق، فقد أطلق وكالة استخبارات جديدة متخمة بالقتَلة المسلّحين، الذين أوكل إليهم مهمّة حماية نظامه من الغضب الشعبي. وعندما تجرّأ قاضي المحكمة العليا في البلاد، الشهر الماضي، على تعيين رئيس انتقالي مؤقّت إلى حين انتخاب رئيس جديد، قام مسلّحو مويز باعتقال ما يزيد على 20 من كبار المسؤولين وثلاثة من قضاة المحكمة العليا، ليُعيّن الرئيس موالين له مكانهم.
وتتوزّع المعارضة في هايتي على أحزاب سياسية من يمين الوسط يجمعها تحالف فضفاض يرأسه المحامي أندريه ميشيل؛ والمتظاهرين في الشوارع الذين يدعمهم تجمّع للنقابات العمالية يُعرف بـ»المنتدى الوطني الجديد». ويكاد العنف بوجه هؤلاء يكون منفلتاً تماماً، إذ هناك ما لا يقلّ عن 150 تنظيماً مسلّحاً لا تتورّع عن إطلاق النار وتنفيذ المذابح. وإلى جانب الفرق التي تُموّلها المخابرات الأميركية مباشرة، فإن معظم كبار السياسيين من أعضاء مجلس الشيوخ والوزراء لديهم أيضاً ميليشياتهم الخاصة، التي ينسّق العديد منها مع أمن النظام وتقوم بتصفية الناشطين المعادين للسلطة. وتعكس المشاكل الحالية في هايتي تمكُّن المعايير السياسية الفاسدة من منظومة السلطة التي طالما رعتها فرنسا، ولاحقاً الولايات المتحدة عبر العقود، منذ نجاح ثورة الهايتيين في فرض استقلالهم في 1804. ومن حينها، تتعرّض الجمهورية للغزوات والاحتلال والعقوبات والحصار، ويتمّ بشكل تقليديّ دعم القلّة البورجوازية، مع إغفال الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
تاريخ هايتي لا يدفع إلى التفاؤل بإمكان خروج الجزيرة من أزمتها العميقة في أيّ وقت قريب


وكانت الولايات المتحدة قد حجبت الاعتراف باستقلال جمهورية هايتي حتى عام 1862، وحظرت التجارة معها حتى عام 1863. واحتلّت قطع من البحرية الأميركية الميناء الرئيسي للبلاد عام 1889 لمنع وصول سفن الدول الأخرى إليها. وعندما غزتها الولايات المتحدة واحتلّتها لعقدين (بين 1915 و1934)، وَضع موظفون أميركيون دستوراً جديداً للجمهورية، وجمعوا ضرائب باهظة من المواطنين، وسيطروا على التجارة الخارجية كلّياً. ولاحقاً، وبحجة محاربة الشيوعية، دعمت الولايات المتحدة حكم دوفالييه، الأب والابن، الديكتاتوري من عام 1957 حتى عام 1986. كما نظّمت المخابرات الأميركية، بالتعاون مع كندا وفرنسا، عملية إسقاط حكم الرئيس جان برتراند أريستيد ــــ المحسوب على خطّ «لاهوت التحرير» اليساري ــــ في عام 2004، بعدما تصاعد قلق واشنطن من «كوبا أخرى» قيد التكوُّن. وبالفعل، نقلت طائرة أميركية الرئيس المخلوع إلى أفريقيا الوسطى، فيما نسّقت الدول الثلاث عملية إرسال قوات الأمم المتحدة للسيطرة على هايتي كقوة احتلال. وقد أجبرت الحكومة الأميركية، الجزيرة، على فتح أسواقها المحلية، وأغرقتها بملايين الأطنان من الأرز والسكر الذي ينتجه المزارعون الأميركيون بدعم حكومي كبير، الأمر الذي قَوّض الزراعة في هايتي بشكل شبه كامل. لاحقاً، اتّكلت القوى الغربية، في تنفيذ أجنداتها، على المنظّمات غير الحكومية الأجنبية الناشطة في هايتي بشكل مستقلّ، والتي نادراً ما تتعاون مع السلطات الرسمية، وتُشكّل نوعاً من حكومة خفيّة موازية.
كلّ ذلك التاريخ لا يدفع إلى التفاؤل بإمكان خروج هايتي من أزمتها العميقة في أيّ وقت قريب. فالولايات المتحدة ستقرّر في النهاية ما إذا كان الرئيس مويز سيبقى في منصبه لعام مقبل، أو أنها ستعزله قريباً وتستبدل به شخصية جديدة من بين أتباعها الكثيرين. وهذا تماماً ما يجعل الشارع في مواجهة مفتوحة علنية مع الأميركي مباشرة، يتفوّق فيها إلى الآن تفاؤل إرادة الهايتيين على تشاؤم العقل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا