مناورة تلو الأخرى؛ هذا هو واقع الحال في إيران منذ تزايد التحشيد العسكري الأميركي في المنطقة، والذي ترافق مع انعدام اليقين في ما يمكن أن يقدم عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قبل أن يغادر البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/ يناير الحالي. لم تكد تمرّ ساعات على إنهاء القوات البحرية التابعة للجيش الإيراني مناوراتها «اقتدار - 99» في بحر عُمان، حتى أعلن الحرس الثوري، صباح أمس، انطلاق المرحلة الأولى من مناورة «الرسول الأعظم 15» الصاروخية في الصحراء الوسطى الإيرانية. واشتملت المناورات الجديدة، وفق ما أوردته وكالة «سباه نيوز» التابعة للحرس، إطلاقاً مكثّفاً للصواريخ الباليستية «أرض - أرض» من نوع «ذو الفقار» و»زلزال» و»دزفول»، وتنفيذ عمليات بطائرات مسيّرة هجومية في عموم منطقة الصحراء الوسطى الإيرانية. وكشف قائد القوات الجو - فضائية في الحرس الثوري، أمير علي حاجي زاده، الذي حضر تلك التدريبات إلى جانب قائد الحرس، حسين سلامي، أن «الصواريخ التي استُخدمت اليوم هي جيل جديد من الصواريخ الباليستية». كذلك، أفادت وكالات الأنباء الإيرانية بأن «هذه الصواريخ تمّ تجهيزها برؤوس حربية قابلة للفصل والقدرة على التوجيه خارج الغلاف الجوي، فضلاً عن القدرة على تعطيل الدرع الصاروخية للعدو والمرور من خلاله». تؤشّر سلسلة المناورات الأخيرة إلى أن إيران، على رغم حملة «الضغط الأقصى» الأميركية التي مارستها عليها إدارة ترامب خلال السنوات الماضية، لم تتراجع عن تطوير ترسانتها الصاروخية، وفق ما كانت تهدف إليه تلك الحملة. كما أنها تستبطن رسائل إلى إدارة ترامب، مفادها التحذير من خطورة أيّ إجراء عسكري قد يستهدف الجمهورية الإسلامية خلال الأيام القليلة المتبقّية من ولاية الأخير. وهي رسائل لم تتردّد طهران في التصريح بها علناً، خلال الأسابيع الماضية، على لسان مسؤوليها السياسيين والعسكريين، أو ضمنياً عبر التدريبات التي شملت تقريباً كلّ القطاعات المسلّحة الإيرانية. على أن توقيت المناورات الصاروخية، تحديداً، يشي بأن الرسائل الإيرانية لا تستهدف الرئيس الأميركي الذي شارفت ولايته على الانتهاء فقط، بل تُطاول أيضاً الرئيس المنتخَب جو بايدن، الذي يستعد للدخول إلى البيت الأبيض بعد أيام قليلة.
تسعى إيران إلى قطع الطريق على استفادة بايدن من إرث الضغوط والحصار

وفي هذا السياق، يبدو أن طهران تحاول، بما كشفته في هذه المناورات، أن تستكمل أمام إدارة بايدن المقبلة رسم إطار التفاوُض الذي يناسبها، وذلك بعدما بدأت على لسان المرشد علي خامنئي، الأسبوع الماضي، وضع خطوط عريضة لهذا الإطار، تَمثّلت في طلب «رفع العقوبات قبل العودة إلى الاتفاق النووي، وعدم التخلّي عن القدرات الصاروخية والدفاعية للبلاد»، لتُواصل توضيح تلك الخطوط في مقابلات منفصلة أجراها موقع المرشد مع عدد من المسؤولين، كان من ضمنهم الشخصيات التي قادت المفاوضات النووية خلال المراحل السابقة، حيث شرح هؤلاء المسؤولون أهمّية الشروط التي طرحها خامنئي، كما أكدوا عدم القبول بربط الاتفاق النووي بالملفّ الصاروخي للبلاد.
تذكير إيران بمبادئها للتفاوض ومناوراتها الصاروخية جاء بعدما ربط جاك سوليفان، المرشّح لشغل منصب مستشار الأمن القومي في الحكومة الأميركية الجديدة، العودة إلى الاتفاق بالتفاوض على البرنامج الصاروخي الإيراني، وإشراك أطراف جدد في المفاوضات، وما تبعه من بدء لتخصيب اليورانيوم بنسبة 20% في مفاعل فوردو النووي، والتهديد بالانسحاب من البروتوكول الإضافي لـ»معاهدة حظر الانتشار النووي»، في حال لم تُرفع العقوبات عن إيران في 21 شباط / فبراير المقبل، ما سيقود إلى تحجيم عمل مفتّشي «الوكالة الدولية للطاقة الذرية». وكأن طهران، بذلك، تقول لإدارة بايدن: «لدينا من الأوراق ما يكفي لحصر التفاوض في الملف النووي». من جانب آخر، تسعى إيران، عبر الخطاب والفعل اللذين ما زالت تقدّمهما منذ أسابيع، إلى قطع الطريق على إمكانية استفادة بايدن من إرث الضغوط والحصار الذي خلّفه سلفه على الواقع الإيراني، إذ إنها، بحسب كبير محلّلي الشأن الإيراني في «مجموعة أوراسيا الاستشارية» هنري روم، «تنتهج ثلاثة مسارات لتحقيق هذه المساعي، أولها: حثّ الرئيس الإيراني ومساعديه الرئيس بايدن على التحرّك قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية، المقرّرة في أواخر الربيع المقبل، حيث من المرجّح أن يفوز زعيم أكثر محافظة في الانتخابات، ما قد يجعل الفرصة سانحة للتعامل مع روحاني، وهو في طريقه للخروج من الرئاسة. ثمّ في المقام الثاني، تحاول طهران أن تنشئ ساعة موقوتة لبرنامجها النووي، عبر قرار البرلمان الذي حدّد سلسلة من التواريخ التي تتّخذ فيها إيران خطوات نووية جديدة. ومن المقرّر اتّخاذ الخطوة التالية الأكثر استفزازاً، وهي التخفيض الكبير في وصول المفتشين الدوليين، في أواخر شباط / فبراير. أمّا المسار الثالث، فيَتمثّل في تعزيز قوّاتها في المنطقة، وهو تذكير لبايدن بقدرتها على إحداث المشاكل». من جهتها، رأت صحيفة «جهان صنعت» الاقتصادية أنه «إذا ما أراد بايدن التحدّث إلى المعتدلين في إيران، فعليه أن يتحرّك عاجلاً، لأنه من غير المعروف إن كان الرئيس المقبل للبلاد سيكون متوافقاً في الأفكار مع الرئيس الحالي»، لافتة إلى أن «إيران بأنشطتها النووية الجديدة أصبحت أكثر عناداً، وتريد رفع العقوبات أولاً ثمّ العودة إلى الاتفاق النووي».
محصّلة ما تقدّم تشير إلى أن صورة المشهد العام المقبل بين واشنطن وطهران لن تكون مريحة للطرفين مثلما تحلم به جهات عديدة داخل البلدين، وذلك نظراً إلى انعدام مستوى الثقة بينهما. لكن في كلّ الأحوال، يمكن الاطمئنان إلى أن مستوى العلاقة لن يكون بالتوتّر الذي شهدته السنوات الأربع الماضية، التي قادها على الدفّة الأميركية، ترامب.