أعاد انتخاب جو بايدن فتح النقاش الأوروبي المزمِن بين أنصار توثيق عرى التحالف مع الولايات المتحدة، وبين المؤيدين لبناء سيادة استراتيجية للقارة العجوز. الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي داخلها، متعدّدة. وعلى رغم أن الكثير من الخبراء الأوروبيين يرَون في الاستقلال الاستراتيجي ضرورة حيوية، إلّا أن الحفاظ على التحالف العابر للأطلسي لا يزال يمثّل أولوية رسمية.تُعدُّ فرنسا المدافع الأوّل عن الاستقلال الاستراتيجي بين دول الاتحاد. «هناك معايير واضحة تسمح بالتمييز بين القدرة على الاستقلال الاستراتيجي، أو الدفاع الناعم، وبين الدفاع الصلب الممثَّل بحلف الناتو. غاية الاستقلال الاستراتيجي، المحدود في الواقع، هي تمكين الاتحاد من إدارة أزمات خارج أراضيه، ومن دون مشاركة الأميركيين. من الممكن تلخيص هذه القدرة كالتالي: الاستقلال الاستراتيجي هو إمكانية الفعل بشكل منفرد عندما يكون ذلك ضرورياً، وبشكل مشترك مع الأميركيين عندما يكون الأمر ممكناً»، بحسب فريديريك مورو، المحامي ومستشار الشؤون الدفاعية. ويؤكد هذا الأخير أن فرنسا متمسّكة بهذا التعريف للاستقلال الاستراتيجي، بينما تعتقد ألمانيا بأنه سبيل للابتعاد عن الأميركيين.
ظنّت فرنسا أن تعريفها حَظِي بالتبنّي من قِبَل الاتحاد «لأنه يِرِدُ في وثائقه المرجعية، من الاستراتيجية الشاملة الصادرة في عام 2016 إلى القرار حول الصندوق الأوروبي للدفاع الذي تم إقراره من قِبَل المفوضية في بروكسل. لكنّ ألمانيا ودول البلطيق وبولونيا لا تريد التخلّي عن الحماية الأميركية لمصلحة دفاع أوروبي مفترَض. برلين موافقة على سياسة موحّدة للصناعة الدفاعية، غير أنها لا ترغب في تمويل الصناعة الدفاعية الفرنسية، وتبقى شديدة الارتياب حيال فكرة الاستقلال الاستراتيجي». يضاف إلى هذه التباينات بين الدول الأعضاء، الخلافات حول هذا الموضوع بين قواها السياسية في الداخل. فقد أثار مقال لوزيرة الدفاع الألمانية، آنيغريت كرامب - كارنباور، في مجلّة «بوليتيكو» أوروبا في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ردود فعل حادّة حتى في داخل حزبها. هي دعت إلى التخلي عن «أوهام» الاستقلال الاستراتيجي، وجزمت بأن الأوروبيين لا يستطيعون الاستغناء عن «الدور الأميركي المحوري في الحفاظ على الأمن». فريديريك مورو مقتنع بأن الوزيرة تتوجّه أساساً إلى الرأي العام الألماني المنقسم حول المسألة النووية. «السيدة كارنباور تعلن في الحقيقة ضرورة التزام ألمانيا بالمظلّة النووية الأميركية. يجب أن تبقى برلين حليفاً موثوقاً للأميركيين، ويترجَم ذلك اليوم بالموافقة على التمديد لبقاء الصواريخ ذات الرؤوس النووية التكتيكية الأميركية في أراضيها. داخل الائتلاف الحاكم في هذا البلد، يدافع اليمين عن هذا الموقف انطلاقاً من حرصه على التحالف مع واشنطن، بينما يعارض الاشتراكيون الديمقراطيون والخضر السلاح النووي من حيث المبدأ. مارس الاشتراكيون الديمقراطيون ضغوطاً كبيرة لمنع تجهيز الطائرات المسيّرة الألمانية بأسلحة، ما يحدّ من فاعليتها. الخضر، من جهتهم، يدعمون الاستقلالية الأوروبية، وهم احتجّوا على موقف وزيرة الدفاع في البرلمان الألماني، لكن المشكلة هي أنهم، على رغم تأييدهم الاندماج الأوروبي، غير مستعدّين للدفاع عن مشروع دفاعي مشترك»، وفقاً لمورو. أما فريديريكو سانتوبينو، الباحث في «مجموعة الدراسات والمعلومات الدولية عن السلام والأمن»، فيعتبر أن «هناك تقدُّماً ملحوظاً في الموقف الألماني تجاه موضوع التحالف مع واشنطن، الذي لم يكن قابلاً للنقاش قبل 10 سنوات، مع أن الحوار حوله لم يُحسَم بعد».
يعتبر سانتوبينو أن تطوير دفاع أوروبي مشترك يتطلّب بلورة سياسة خارجية موحّدة


عدة عقبات تعترض طريق بناء استقلال استراتيجي أوروبي، أهمّها غياب القدرة على اتخاذ قرار على مستوى الاتحاد بسبب الخلافات بين دوله الأعضاء. «يرغب الأوروبيون في قيام دفاع مشترك وثقافة استراتيجية مشتركة دون وجود سياسة خارجية موحّدة، ما يحوّل هذا الأمر إلى مهمّة شبه مستحيلة. الدول الوطنية تتعامل مع الأزمات بشكل مستقلّ دون التشاور مع بقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. هي تعتمد سياسات كثيراً ما تكون متناقضة. فبينما يتصاعد التوتّر بين اليونان وقبرص من جهة، وتركيا من جهة أخرى، تستمر ألمانيا في بيع السلاح لهذه الأخيرة. وفي ليبيا، فإن لفرنسا وإيطاليا أجندات متناقضة، حيث تؤيّد الأولى حفتر ومصر على عكس الثانية المسانِدة لحكومة طرابلس. تطوير دفاع أوروبي مشترك يتطلّب بلورة سياسة خارجية موحّدة»، بنظر سانتوبينو.
يعتبر فريديريك مورو أن زيادة المساهمة الأوروبية في موازنة «الناتو»، كما تطالب الولايات المتحدة، تمثِّل إشكالية إضافية تُظهِر عدم استطاعةٍ على أخذ التحديات الفعلية في الاعتبار. «عندما نوَدّ تحديد مقدار الإنفاق في ميدان الدفاع، ينبغي الانطلاق من طبيعة التهديدات الفعلية وليس الدخول في مقارنات مع ما تنفقه الولايات المتحدة في هذا الميدان. حسب إحصاءات الناتو، فإن الدول الـ21 الأعضاء في الوكالة الأوروبية للدفاع، باستثناء بريطانيا، قد أنفقت 184 مليار يورو سنة 2020. إذا أضفنا إلى ذلك الإنقاق البريطاني والتركي، نصل إلى 262 مليار يورو. في المقابل، لم تنفق روسيا في مجال الدفاع سوى 50 مليار يورو. لكننا، عندما نرتعد خوفاً في مواجهة طرف ينفق أقلّ بخمسة أضعاف في مجال الدفاع، فإن مشكلتنا ليست في مقدار الإنفاق بل في بنيتنا السياسية. وكما أشار أنتوني كوردسمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في مقالة نشرها في شباط/ فبراير 2019، فإنه من غير المجدي التركيز على هدف الـ 2% من الإنفاق العسكري، بل ينبغي الاهتمام بالتخطيط لكيفيّة استخدام القدرات العسكرية المتوفّرة. القضية الرئيسة هي معرفة ما إذا كان الأوروبيون قادرين على الدفاع عن أنفسهم. شخصياً، أعتقد أنهم ينفقون مبالغ طائلة للإبقاء على علاقة تبعيّة مع الأميركيين الذين لا يريدون حلفاء - أنداداً بل مجرّد أتباع».
على المدى المتوسط، لا يستند الرهان على استقلالية استراتيجية أوروبية متنامية حيال الولايات المتحدة إلى معطيات واقعية. وحتى لو افترضنا وجود إرادة أوروبية بتجاوز المعوقات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف على المدى الطويل، فإن القارّة العجوز ستحتفظ بعلاقات قوية مع واشنطن. «الأوروبيون، حتى أشدّهم حماسةً للاستقلال، لن يذهبوا أبداً في اتجاه القطيعة مع الولايات المتحدة، لأن التحالف العابر للأطلسي هو من بين أولوياتهم الراسخة»، يختم فريديريكو سانتوبينو.