ثمة من يظن أن وجود الجنرال قاسم سليماني في دول المنطقة كان «أمراً مستجدّاً» ومرتبطاً بأحداث ما بعد ظهور «داعش»، وأن أيديَه الممدودة بالمساعدة هي نتيجة لتقديرات آنيّة وتطوّرات محددة. لكن الحقيقة أن الرجل مثّل دور «القائد العسكري لحلف المقاومة»، والتطوّرات المتسارعة لم تغيّر فهمه الاستراتيجي للتعامل مع قضايا المنطقة والعالم، وعلى رأس ذلك اقتناعه بأن إنشاء كيان الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين هدفه الأساسي تسهيل الهيمنة على المنطقة بزرع عدو قويّ مقتدر يخيف الأنظمة ويطوّع الشعوب. من هنا، كانت اقتناعه بأن هذا الكيان لا بد أن يزول، وأن إزالته تحتاج الى قوة عسكرية تكون رادعة بداية، ثم مؤذية، وفي التقدير الميداني أن السلاح الأقدر على تأمين القوة المطلوبة هو الصواريخ، ولذا لا بد من زرع منظومات صاروخية في محيط الكيان، وبناء محور مقاوم يتكوّن من جبهات عدة كان له دور بارز في كل منها، فضلاً عن كونه ضابط الإيقاع بينها.
تصميم: رامي عليان، خديجة شكر | أنقر على الصورة لتكبيرها

الطوق الغربي - الجنوبي
كان لافتاً التطور السريع الذي حققه «الحاج» في العلاقات مع الفصائل الفلسطينية، وعمق إدراكه المشهد الفلسطيني بتفاصيله الكاملة، كأنه أحد الفلسطينيين في الداخل. في البداية، جرى تأسيس البنية القتالية لدى الفصائل في الضفة وغزة قبل أن تنحصر في الأخيرة. خلال ذلك، استغل سليماني الطرق الممكنة لإيصال الدعم والصواريخ إلى القطاع، وأهمها خط البحر الأحمر - السودان - سيناء. لاحقاً، من أجل التعويض عن الصعوبة في نقل الأسلحة نتيجة تغير ظروف المنطقة، سعى «الحاج» إلى «التركيز على التصنيع في الداخل»، ولذلك مدّ الفلسطينيين بالقدرات المالية والتجهيزات الفنية والتقنيات والخبرات اللازمة لرفع مستوى التصنيع على المستوى الصاروخي. كل هذه الجهود ساهمت في قفزة نوعية في المنظومة الصاروخية الفلسطينية، مقارنة ببداية الانتفاضة على صعيد المدى أولاً والدقة في الإصابة ثانياً والقدرة التدميرية ثالثاً، وقبل أيام قليلة، كشف الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي» أن الذراع العسكرية للحركة، «سرايا القدس»، لديها صواريخ تحمل رأساً متفجراً وزنه 450 كلغ، فيما بات المدى مفتوحاً حتى جنوب لبنان. أما مصادر في «حماس»، فتكشف عن عامل رابع هو الكثافة، ملمحة إلى أن أي مواجهة مقبلة، ستشهد مدينة تل أبيب المحتلة تحديداً كمية صواريخ من غزة وحدها «بعدد مكوّن من ثلاثة أرقام»... والفضل يعود معظمه إلى الحاج قاسم و«حرس الثورة». بهذا، تكون الجهة الغربية - الجنوبية لفلسطين المحتلة مزروعة بالصواريخ التي تنتظر لحظة إطلاقها.
بإمكان قوى المقاومة كلها ضرب فلسطين المحتلة من شمالها إلى جنوبها


الطوق الشمالي
في السنوات الأولى لتسلّمه مهماته في «القدس»، قبل تحرير جنوب لبنان (1998 - 2000)، عمل الشهيد على تدريب قادة المقاومة وتأهيلهم لرفع المستوى العسكري والاستراتيجي لديهم، فضلاً عن مواكبة نشاط المقاومة ومدّها بما تحتاج إليه من سلاح وعتاد. وحين اندحر العدو من لبنان عام 2000، فُتحت آفاق جديدة للمقاومة، مع تأكّد القيادة في إيران أن مساندتها للمقاومة خلال 18 عاماً أدت إلى هذه النتيجة، وقد أحسن سليماني الاستفادة من هذا الإنجاز، بجعله نموذجاً يقدّمه لأي حركة مقاومة في أي ساحة أخرى، وقد ارتكزت خططه في ذلك الوقت على ثلاث نقاط أساسية:
- مساعدة المقاومة الفلسطينية عبر لبنان بنقل التجربة والإمكانات.
- تقوية بنية حزب الله في لبنان عامة لا فقط عسكرياً.
- التحضير لبنية دفاعية قادرة على منع الاحتلال مجدداً، وردع أي عدوان.
لذلك، كان العمل بين 2000 و2006 على قدم وساق لرفع مستوى القدرات الصاروخية وتطوير القوّتين البحرية والجوية. يؤكّد قيادي رفيع في المقاومة أهمية ما قدمه الحاج قاسم إلى حزب الله، في السنوات الفاصلة بين التحرير وحرب تموز، بل كان لجهوده «أثر مباشر في سير المعارك خلال الحرب، وله الفضل في امتلاك المقاومة القدرة الصاروخية النوعية التي استخدمتها آنذاك، أو تلك التي لم تستخدمها بعد». يضيف القيادي: «الحاج هو المسؤول عن تزويد المقاومة بالمسيّرات التي لعبت دوراً مهماً خلال الحرب، وهذا يُحكى لأول مرة، إذ استُخدمت المسيّرات لمراقبة تحركات العدو خلال 2006، وحتى في الإغارة عليه أحياناً». بعد الحرب، وإثبات المقاومة جدارتها وأن الأسلحة النوعية ستكون بأمان من يد العدو الذي عجز عن الثبات على الأرض، اتخذ القرار بالعمل سريعاً على تحسين القدرات في كل المجالات... «من الإبرة للمسعفين الحربيين، حتى صاروخ فاتح 110»، وفق تعبير القيادي الرفيع.
لاحقاً، عندما اندلعت الحرب في سوريا، وكان من الأهداف الأساسية قطع الدعم عن المقاومة في لبنان، جرى العمل على رفع مستوى القدرات إلى «الكمّ النوعي»، أي عدد كبير للصواريخ بنوعيّات استثنائية، فدخلت المقاومة مرحلة «الصواريخ الدقيقة» بمستوياتها القادرة على الوصول إلى أي هدف في فلسطين المحتلة، إضافة الى التطور على صعيد سلاح الجوّ والقوة البحرية التي باتت في مراحل متقدمة جداً. اليوم، بفضل جهود سليماني، بات الطوق الصاروخي الشمالي محكماً، وتحوّل إلى «غابة من الصواريخ... بل يشهد العدو قبل الصديق أن 90% من دول العالم لا تمتلك القدرة الصاروخية التي تملكها المقاومة»، يقول القيادي.

الطّوق الشمالي - الشرقي
تدرجت علاقة سليماني مع القيادة السورية من السنوات الأولى لتسلّمه قيادة «القدس» حتى حرب 2006 حين كان له دورٌ محوريٌّ في تمرير السلاح خلال الحرب وفتح مخازن الجيش السوري لنقل السلاح والعتاد إلى حزب الله، قبل أن تتمتّن العلاقة عام 2011 على المستويات كافة. و«الحاج» منذ بداية دخوله للمساعدة في الساحة السورية رأى أنها فرصة لتظهير «حلف المقاومة»، ولجعل سوريا القاعدة الأساسية بكل عناوينها لهذا الحلف، قياساً إلى موقعها الجغرافي. وبينما عمل في ما يخص الوضع الداخلي والمعارك الجارية، اهتم ببناء تشكيلات عسكرية يكون لها دور أساسي في المعركة الكبرى للحلف، إن كانت مع الأميركي أو في مواجهة العدو الإسرائيلي.
وبخصوص القدرات العسكرية في سوريا، على المستويات الجوية والبرية والبحرية، كان الشهيد دائم التفكير في كيفية تطويرها للاستفادة منها في أي حرب شاملة. مثلاً على مستوى الطائرات المسيّرة التي استُعملت ضدّ المسلحين وأثبتت جدارتها، أصرّ «الحاج» على تطويرها لتكون جاهزة للانخراط في المعركة مع العدو الإسرائيلي. ينقل عنه أحد المقرّبين منه في سوريا أنه كان يقول: «المسيّرات أثبتت جدارتها مع التكفيري، لكن يلزمها المزيد من التطوير لتلائم العمل ضد الإسرائيلي». وسوريا التي أرادوا أن تتحول إلى الصف الأميركي - الإسرائيلي بات يُفترض بعد زوال الخطر الشديد أن تكون لديها القدرة على مواجهة أي اعتداء إسرائيلي، أو حتى الانخراط في معركة شاملة مع العدو. انطلاقاً من هذه الرؤية، ومن تحويل تهديد الحرب إلى فرصة، ولصعوبة إحكام الطوق الصاروخي حول الكيان من دون سوريا، أمّن الحاج قاسم انطلاقاً مما تملكه البلاد أصلاً ومما أمكن تزويدها به «ترسانة صاروخية ضخمة قادرة على أن تطاول الأراضي الفلسطينية المحتلة بكاملها». وبجانب الصواريخ في لبنان، تسهم الصواريخ في سوريا في تكثيف التهديد وإحكام الطوق من جهة الشمال.
أحد القياديين في المقاومة والمطّلعين على هذا الملف شرح أن في «الترسانة السورية تتوفّر أنواع الصواريخ الدقيقة التي نحتاجها لضرب أي هدف في الكيان المحتل، من أي نقطة في البلاد». ومن أبرز الصواريخ التي تحويها الترسانة السورية:
1- توشكا (120 كلم)
2- سكود 3 (جولان) (180 كلم)
3- سكود «ب» (شهاب 1) (350 كلم)
4- شهاب 2 (750 كلم)
5- إسكندر (800 كلم)
6- شهاب 3 «أ» (1300 كلم)
7- شهاب 3 «ب» (2000 كلم).

دعم سليماني المقاومة في لبنان بمسيّرات استُعملت في حرب تموز


الطّوق الشرقي
في العامين الأخيرين، عمل سليماني، بالتعاون مع الشهيد «أبو مهدي» المهندس، على الحفاظ على الاتصال الجغرافي بين عواصم حلف المقاومة (طريق طهران ــ بغداد ــ دمشق ــ بيروت)، إضافة إلى تطوير قدرات «الحشد الشعبي» لمواجهة التهديدات، وتطوير قدرات «فصائل المقاومة» وإمكاناتها، كي تساهم في أي مواجهة شاملة. وبينما كان العدو الإسرائيلي يراكم قدراته الدفاعية باتجاهين محدّدين: الشمال والشمال الشرقي (لبنان وسوريا)، والجنوب (غزّة)، على أساس أن «التهديد الصاروخي ينحصر في هذين الاتجاهين» بجانب صواريخ إيرانية يمكن أن تطاوله، ما دفعه إلى «الاطمئنان» لجبهة الأردن ومصر والبحر الأبيض المتوسط، أراد سليماني سلب العدو نقطة الأمان هذه بإيصال النيران إلى الأراضي المحتلة كافة من جميع الاتجاهات. ولئِن كان شرقي فلسطين (الأردن) خارج دائرة التهديد، رغم محاولات حثيثة في هذا الإطار، رأى سليماني ضرورة في إدخال العراق في دائرة التهديد للعدو ليملأ الفراغ «الآمن».
رغم المشهد السياسيّ الصعب في العراق، يؤكّد مصدر قياديٌّ أن «الحاج تمكّن من ترسيخ قدرة صاروخية هناك قادرة على تغطية الأراضي الفلسطينية المحتلة وكامل القواعد العسكرية الإسرائيلية فيها، من الشمال حتى الجنوب». فالعراق، بتعبير سليماني، «قلب المحور ونبضه، ولا يمكن لهذا النبض أن يتوقّف». يضيف المصدر أن «تمكين العراق من جبهة العدو الشرقية تحديداً يسلب الأخير القدرة على التفرّد في الدفاع الصاروخي من جبهته الشمالية، ويدفعه مرغماً إلى تجهيز دفاع دائريّ، ما يضعف من قدرته الدفاعية العامة، لأن منظوماته لن تكون قادرة على تأمين الجبهات كافة».

الطّوق الجنوبي
مع أن العلاقة قديمة مع «أنصار الله»، فإنها دخلت في مرحلة مختلفة عند بدء العدوان على اليمن عام 2015. سريعاً عمل سليماني على إرسال نخبة بمستويات مختلفة لمساعدة اليمنيين ضمن خطة من ثلاث مراحل:
- مواجهة العدوان بالحسم في إدارة المعارك.
- الاستفادة من إمكانات الجيش المتبقية وصيانتها وتطويرها وخصوصاً الصواريخ.
- رفع مستوى التنظيم بالتدريب والتأهيل.
بعد ذلك، كان التوجّه لدى الجنرال تأمين قوة صاروخية يمنية سيكون لها دور أساسي في مراحل مقبلة خلال صدّ العدوان، وفي ما بعده. وقد بدا لديه خططٌ لتطوير القدرات الصاروخية تدرّجت في أربع مراحل:
- صيانة وتطوير الصواريخ التي بحوزة الجيش سابقاً، وتدريب اليمنيين على تشغيلها، ومن أبرزها: توشكا (120 كلم)، سكود (يصل إلى 500 كلم)، صواريخ أرض ـــ جو «سام 6».
- تحديد النواقص في الترسانة الصاروخية والسعي إلى تأمينها، من أبرزها: صاروخ فجر (300 كلم)، صاروخ قيام (700 كلم)، إضافة الى إمكانات أخرى كالمسيّرات والصواريخ البحرية التي تخطّت مدياتها 200 كلم.
- تدريب اليمنيين على تجميع وتصميم الصواريخ التي تصل قطعها مفكّكة ثم تشغيلها.
- العمل على رفع مستوى القدرة من تجميع الصواريخ إلى تصنيعها، وذلك باستغلال الطاقات العلمية وتدريبها، إضافة إلى تزويد اليمنيين بالتجهيزات اللازمة لإنشاء معامل لتصنيع الصواريخ والأسلحة الجوية والبحرية.
يروي مصدر عسكري واكب الحاج في الساحة اليمنية أنه ركّز على «تطوير القدرات التصنيعية والتجميعية والتكنولوجية لتحصيل الاكتفاء الذاتي في مجال الصواريخ والمسيرات، ورفع مستوى هذه الإمكانات، وتحديداً الصواريخ، لزيادة المدى والدقة». ويقول: «تعاظمت القدرة الصاروخية اليمنية التي تتميز، إضافة إلى مدياتها العالية، بأنها ذات قدرة على تجاوز الدروع الصاروخية». ومن أهم هذه الصواريخ حتى الآن:
- عائلة بركان (1500 كلم)
- عائلة زلزال (2000 كلم)
- عائلة قدس (2000 كلم)
وفوق ذلك مجموعات جديدة من المسيّرات والصواريخ الجوالة التي لا تتميّز من حيث التصميم والقدرات الهجومية فقط، بل أيضاً بالمسافات الهائلة التي يمكن أن تقطعها من غير أن تكون مرصودة من الرادارات.
هكذا، لم يكن «الحاج» ينظر إلى اليمن على أنه ساحة تتعرّض للعدوان وعليه الدفاع والصمود فقط. بل كان يعتقد أنه عبر تعزيز القدرات وخصوصاً الصاروخية سيكون لليمنيين دور مفصليٌ وأساسيٌ في أي حرب شاملة حتى مع العدو الإسرائيلي، كما كان يرى أن اليمن يمكنه أن يلعب دوراً أساسياً في جوانب أخرى؛ أبرزها:
- تأمين البحر الأحمر والسيطرة على الخطوط البحرية التي يُعتمد عليها جزئياً لتمرير الإمدادات إلى جنوب فلسطين.
- إعاقة الدروع الدفاعية للكيان عبر رمايات صاروخية من جهة الجنوب التي لم يكن العدو يرى فيها جهة تهديد باستثناء غزة.
وبينما يمتلك اليمن اليوم صواريخ تستطيع الوصول إلى أهداف دقيقة جنوب فلسطين المحتلة، يجري العمل على تطوير هذه القدرات لتطاول كامل الأراضي المحتلة.
هكذا، يكون «القائد» قد نجح في ضرب طوق صاروخي على العدو عبر قوى وحتى دول بإمكانها أن تُحكم هذا الطوق حول عنق الكيان وتخنقه. وقد تمّ قبل رحيله المشهد الذي ستكون فيه الأراضي المحتلة بما تحويه من منشآت حيوية واستراتيجية ومستوطنات وغيرها منتظرة اللحظة التي تنهمر فيها الصواريخ من الجهات الأربع في آنٍ.