في الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2021، حين تحلّ الذكرى الثانية للانقلاب الذي جاء بخوان غوايدو رئيساً انتقالياً لفنزويلا، تكون كاراكاس قد تخطَّت عقبتين اثنتين: أولاهما رحيل الإدارة الأميركية الحالية التي خيضت مساعي الانقلاب تحت رايتها، فيما يشكِّل الخلاص من مزحة "رئيس السفارة" ثانيهما. على أن الضغوط الخانقة، وغيرها من المحاولات لإحداث تحوّلات تُرضي واشنطن في حديقتها الخلفية، ليست حكراً على إدارة بعينها. تحولاتٌ تبدو متعثّرة راهناً، خصوصاً في ظلّ استرداد الرئيس نيكولاس مادورو المجلس التشريعي، وإن بنسب مشاركة متواضعة في الانتخابات جلّت، هي الأخرى، حجم الأزمة التي تعيشها البلاد الرازحة تحت ضغوط أميركيّة خانقة، ربّما يكون الفكاك منها ممكناً إذا صدَقت إدارة بايدن في نيّتها التفاوض مع فنزويلا.
استردّ الرئيس نيكولاس مادورو المجلس التشريعي الفنزويلي، وأجرى الانتخابات في موعدها من دون الاستماع إلى تهويل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ونفاق حلفائه. أنجزَها بما تيسّر مِن صمودٍ. وإن لم يُحقِّق انتصاراً كاسحاً في ظلّ مشاركة منخفضة نسبياً، إلّا أنه استمرّ في تحطيم آمال واشنطن وكسرِ هيمنتها. أنجزت فنزويلا انتخاباتها البرلمانية وسط حصارٍ اقتصادي مُطبق، رافقه غضبٌ أميركي وتشكيك أوروبي في نزاهة العملية الديموقراطية. لكن كاراكاس، على جري عادتها، لم تلتفت إلى صخب التهديدات والمناورات التي تقودها واشنطن وحلفاؤها، بل قرّرت خوض غمار المواجهة مهما بلغت التكاليف.
لم تشكّل النتيجة الانتخابية التي أعطت التحالف الاشتراكي الحاكم الغالبية البرلمانية (67.60%) أيّ مفاجأة على الإطلاق. فالمعارضة الموالية لواشنطن اختبأت خلف المقاطعة لمنع تكشُّف واقعها الشعبي المتردّي بعد سلسلة هزائم تبعتها فضائح ماليّة أغضبت إدارة البيت الأبيض التي وصفت زعيم المعارضة، خوان غوايدو، بالغبيّ الذي يُكثِر من الوعود، ولا يحقّق أيّ نتيجة عملية تُضعف من سلطة الرئيس نيكولاس مادورو. اليوم الانتخابي الهادئ أعطى للسلطة الاشتراكية غطاءً تشريعيّاً مهمّاً بعدَ ما وصفه مادورو بخروج البرلمان الحالي عن المصلحة الوطنية وتبنّيه الانقلابات الأميركية المتتالية وخرقه الدستور، عبر القفز على نتائج الانتخابات وتعيين رئيس انتقالي بديل قسّم البلاد وجعلها عرضة للفتنة والاقتتال الداخلي. إلّا أن المشاركة التي لم تتخطَّ عتبة الـ 31%، أنذرت، هي الأخرى، بحجم الأزمة التي تعيشها المعارضة والسلطة على حدٍّ سواء.
اختبأت المعارضة الموالية لواشنطن خلف المقاطعة لمنع تكشُّف واقعها الشعبي المتردّي


قراءة «الحزب الاشتراكي الموحّد» لنتائج الانتخابات جاءت سريعة. فالحزب الذي يعي حجم الأزمات السياسية والاقتصادية والصحيّة في البلاد كان على دراية مسبقة بطبيعة المزاج الشعبي، الذي وإن لفظ المعارضة الموالية لواشنطن، لكنه لا يشعر بالرضى عن الأداء الحكومي، فضلاً عن التباطؤ في مكافحة الفساد واتّخاذ الإجراءات السريعة للحدّ من المعاناة الشعبية جرّاء الحصار الأميركي الذي يطال كلّ احتياجات الناس، من غذاء ودواء وطاقة. هذه القراءة جعلت من الرئيس الفنزويلي يخوض التحدّي عبر الوعد بترك السلطة حال فوز المعارضة. في ذلك، استند مادورو إلى معلومات موثوقة تؤكّد عدم قدرة المعارضة التقليدية على حصد الغالبية البرلمانية، فضلاً عن أن المعارضة الوطنية، التي انشقّ جزء منها عن ركب واشنطن، وآخر لم يلتحق أصلاً بغوايدو، تُشكّل ضمانةً ديموقراطية، ولا سيّما أن حضورها لا يمثّل خطراً على الاستقرار الداخلي، كما أنها غير متورّطة في المشاريع الخارجية التي تسعى إلى تدمير الدولة وتسليمها إلى مرتزقة الولايات المتحدة.
لكن القراءة الأهمّ التي أعلن عنها مادورو تمثّلت في العودة إلى الحوار الداخلي والتكاتف الاجتماعي لإنقاذ البلاد. قراءة أتت نتيجةَ مراجعة شاملة قام بها «الحزب الاشتراكي الموحّد» قبل الانتخابات النيابية، وبقيت قيد الكتمان حتى تتبلور الصورة الانتخابية ونتائجها. إلّا أن المطالعات الحزبية تحدّثت عن ضرورة إجراء تفاهمات سياسية وخصوصاً مع المعارضة التي تقودها تيارات شبابيّة، وفتح المجال في الإدارات العامة أمام هذه القيادات، والتوصّل إلى توافق سياسي بحدّه المقبول ليقطع الطريق أمام الضغوط الخارجية، إلى جانب العمل على وضع رؤية اقتصادية جديدة تزيد من قدرة المواجهة وتعزّز من صمود الفنزويليين. كما تحدّثت التوصيات، في لقاء المراجعة، عن نشاط دبلوماسي في اتّجاه الخارج للمساعدة في فكّ العزلة وتوسيع دائرة التعاون الاقتصادي مع عدد من الدول التي ترغب في التقارب مع كاراكاس. غير أن الملفّ الأهمّ الذي أثير في اللقاء، هو الرسائل التي تلقّاها الجانب الفنزويلي من دائرة الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، بإمكانية إجراء حوار مع إدارته المقبلة، ما يفتح الأبواب أمام تغييرات شديدة الأهمية في الملفّ الفنزويلي، أبرزها أن البوليفاريين حسموا معركة السيادة لمصلحتهم وأخضعوا، وهم جوعى، أكبر الإمبراطوريات وأكثرها وحشيّة ودموية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا