الانقسام في النخبة السياسية الأميركية حيال إيران هو بين فريق يعتقد بإمكانية إسقاط نظامها الإسلامي عبر الضغوط القصوى والحرب الهجينة، وصولاً ربّما إلى الصدام العسكري المفتوح والواسع معها، وبين فريق آخر يرى أن المطلوب، والقابل للتحقيق برأيه، هو تغيير سياسات هذا النظام وليس إسقاطه. النواة الأيديولوجية - العقائدية في إدارة دونالد ترامب تنتمي إلى الفريق الأول، بينما يقف رئيسها في موقع وسطي آملاً بانصياع إيران لشروطه لعقد «صفقة» معها، فيما يتبنّى جو بايدن وفريقه المقاربة الثانية.لكنّ أنصار «تغيير النظام» وأولئك الساعين لـ«تغيير سياساته» يشتركون في اعتبارهم موقف الجمهورية الإسلامية المبدئي من الكيان الصهيوني، وما نجم عنه من سياسات معتمَدة من قِبَلها، سبباً جوهرياً للصراع معها. فتطوير إيران لقدراتها العسكرية والصاروخية كمّياً ونوعياً، ومساعدتها لبقية أطراف محور المقاومة على القيام بالأمر عينه، وما يترتّب على ذلك من تحوّل تدريجي، ولكن مستمرّ، لميزان القوى الإجمالي في الإقليم لغير مصلحة الكيان الصهيوني، حجر الزاوية في منظومة الهيمنة الأميركية والغربية عليه، يحتلّ موقعاً مركزياً بين دوافع الحرب الهجينة المحتدمة ضدّها في السنوات الأخيرة. وربّما من المفيد التذكير بأن تسارع عملية تطوير ومراكمة القدرات المشار إليها، ومدّ الحلفاء بها، أتى بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول 5+1 في عام 2015، وتزامَن مع انقلاب مجرى المواجهة لمصلحة الدولة السورية وحلفائها بعد التدخل الروسي أواخر العام نفسه. هل كانت إدارة باراك أوباما ستُوقّع الاتفاق النووي مع إيران لو امتلكت مَلَكة التنبّؤ بما سيليه من أحداث؟ الجواب هو قطعاً لا. فالعلاقة العضوية بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحرصها على ضمان تفوّقه النوعي كانا سيدفعان هذه الإدارة إلى إدراج البرنامج الصاروخي لإيران ودورها في الإقليم ضمن شروطها للتوقيع على الاتفاق. ومن المرجّح أن بايدن، في حال فوزه بالرئاسة، سيأخذ بهذه المقاربة، مع الاختلاف في سبل التعامل مع طهران عن تلك التي اتّبعها ترامب، لحملها على القبول بها.
لا شكّ في أن العمل للتوصّل الى نوع من «فكّ الاشتباك» مع إيران من قِبَل إدارة أوباما جاء في إطار استراتيجيتها العامة لـ«الاستدارة نحو آسيا» والتصدي لصعود القوة الصينية. وبات هذا التصدي محطّ إجماع بين النخب الأميركية باعتبار أنه ينبغي أن يكون أولوية على جدول أعمال أيّ رئيس أميركي مهما كانت هويته السياسية. التفرّغ لهذه الأولوية يَفترض، إذا أُخذ تراجع قدرات الإمبراطورية الأميركية في الاعتبار، التخفّف نسبياً من أعباء «تورّطها» المكلف في الشرق الأوسط ونزاعاته، مع الحفاظ على أمن ومنعة حلفائها فيه، وفي مقدّمتهم الكيان الصهيوني.
ستمضي إدارة بايدن، في حال فوزه، في استراتيجية «قطع الأذرع»، أو على الأقلّ شلّها

اعتبرت إدارة أوباما أن التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، وما سيليه من خروجها من العزلة المفروضة عليها من دول الغرب ووعود بشراكة اقتصادية مثمرة، كلّ ذلك سيشجّع بعض أقطاب نظامها على المطالبة بالتركيز على حلّ المشكلات الداخلية وعلى التحدّيات المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والتطور العلمي والتكنولوجي، والانسحاب من النزاعات المستشرية في الجوار، خاصة تلك التي تضعها في مواجهة الغرب. عطفاً على ذلك، فإن هذه النزاعات، وتحديداً منها المستعر في سوريا، كانت قد أصبحت في سنتَي 2014 و2015، من منظور إدارة أوباما، حرب استنزاف للدولة السورية وإيران و«حزب الله»، وأخذت في التطوّر لغير مصلحتهم بعدما تقاطعت في تلك الفترة، بداية 2015، دول إقليمية كتركيا وقطر والسعودية على دعم فصائل المعارضة السورية، ما أفضى إلى تشكيل «جيش الفتح»، وشنّ هجوم تَمكّن خلاله من احتلال مدن كجسر الشغور وإدلب والتقدّم باتجاه الساحل السوري. طبعاً، حظي هذا التقاطع بدعم أميركي وغربي. حساب إدارة أوباما كان واضحاً: نتّفق مع إيران، ونُكثّف ومَن معنا الضغوط ميدانياً على حلفائها في سوريا لاستنزافهم جميعاً وإضعافهم، تمهيداً لهزيمتهم وما يستتبعها من تفكيك لمحور المقاومة. بكلام آخر، نحاور إيران ونقطع أذرعها في الإقليم. هذا هو السياق العام الذي وُقّع فيه الاتفاق النووي مع إيران. غير أن التدخل الروسي في أواخر أيلول 2015 قَلَب المشهد رأساً على عقب، ومَكّن الدولة السورية وحلفاءها من صدّ الهجوم المعادي واستعادة المبادرة، وبقية القصة معروفة للقاصي والداني.
المهمّ هو أن الغبار الكثيف للحرب السورية مَكّن محور المقاومة من تحويل التهديد إلى فرصة، والشروع في عملية تطوير متسارعة للقدرات العسكرية والصاروخية، تؤرّق القادة العسكريين الصهاينة نظراً إلى انعكاساتها الكارثية في نظرهم على موازين القوى في المنطقة بين الكيان وأعدائه. دَشّنوا لمحاولة وقف هذه العملية ما سمّوه «عمليات ما دون الحرب»، أي آلاف الغارات والهجمات على مواقع الصواريخ ومراكز تخزينها، لكنهم فشلوا في ذلك. وصل ترامب إلى السلطة واعتمد سياسة «الضغوط القصوى» على إيران، وانسحب من الاتفاق النووي، من أجل حملها على التخلّي عن برنامجها الصاروخي ودورها في دعم حلفائها في محور المقاومة. بدلاً من سياسة «قطع الأذرع» السابقة، انتقل إلى سياسة «استهداف الرأس والأذرع». لكن هذه السياسة، على رغم أكلافها الباهظة الإنسانية والاقتصادية والمالية بالنسبة إلى المستهدَفين، لم تُجدِ نفعاً لأنها لم تحقق أهدافها.


إذا بقي ترامب في موقعه بعد الانتخابات، سيمضي في السياسة نفسها في محاولة لفرض الإذعان على إيران، مع ضغوط كبرى من الجماعات العقائدية - الأيديولوجية المؤيدة لإسرائيل لحسم الصراع من خلال اللجوء إلى الحرب. بايدن، من جهته، في حال فوزه، لن يكتفي بالعودة إلى الاتفاق النووي بصيغته الأصلية، بل سيسعى إلى إحداث تعديلات فيه تُدخل في ملاحقه بنوداً مرتبطة بوقف تطوير الصواريخ الدقيقة، كمّياً ونوعياً، ومدّ الحلفاء بها. في مقابل ذلك، هو سيحاول «إغراء» إيران بتحويل الاتفاق إلى معاهدة، عبر الحصول على توقيع الكونغرس عليه، وبانفتاح سياسي واقتصادي أميركي وغربي عليها، يفتح الباب أمامها للخروج من الحصار نحو «التقدّم والازدهار». لكن، إلى جانب المحفّزات، ستستمرّ الضغوط في مرحلة التفاوض في محاولة لانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات. وبالتوازي مع ذلك، ستمضي إدارة بايدن، في حال فوزه، في استراتيجية «قطع الأذرع»، أو على الأقلّ شلّها، عبر تشديد الحصار على سوريا من خلال «قانون قيصر» وعلى «حزب الله»، والترويج في الآن نفسه، في إطار سياسة الدمج بين الضغط والإغراء، أو العصا والجزرة، لفكرة «إطار إقليمي للأمن» يضمّ مختلف دول المنطقة لحلّ النزاعات «سلمياً» و«التعاون في ما بينها». وقد بدأت بعض الأبواق الإعلامية اللبنانية والعربية، الوثيقة الصلة بالإمارات، بالدعاية لهذا الإطار أو المنظمة، على أنها ستتيح التوصل إلى حلول لجميع حروب المنطقة وتفتح أمامها «آفاقاً جديدة». بايدن سيسعى، في حال فوزه، وعبر أدوات «خشنة» و«ناعمة» و«ذكية»، إلى تفكيك محور المقاومة حمايةً لإسرائيل، وهي غاية مشتركة بينه وبين ترامب وجميع مَن سبقهما إلى منصب رئاسة المستعمرة البيضاء الأكبر، الولايات المتحدة الأميركية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا