لو اختار أحدهم، قبل عدّة سنوات، عنواناً لمقالة حول الانتخابات الأميركية مثل: «الانتخابات التي قد تَكسر أميركا»، لوُصف بالمتطرّف، الكاره لأميركا، ومن أصحاب نظرية المؤامرة، أو ربّما بما هو أسوأ. لكن هذا هو عنوان مقالة في مجلة «الأتلانتيك» - أكثر مجلات أميركا عراقة ورصانة - بقلم بارتون جيلمان (نُشر إلكترونياً في أيلول/ سبتمبر الفائت، وسيتمّ نشره مطبوعاً في عدد تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل). يغوص الكاتب عميقاً، على امتداد 32 صفحة، في دراسة جميع الاحتمالات التي قد تتمخّض عنها انتخابات الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر، ويُركّز على تكتيكات إدارة دونالد ترامب وحزبه الجمهوري، والتي بدأت باتخاذ أشكالها المختلفة منذ ما قبل انتخابه عام 2016، مروراً بالانتخابات النصفية عام 2018 وما أعقبها من طعونات ودعاوى قانونية، وصولاً إلى استماتة ترامب في ترشيح آمي كوني باريت وتعيينها عضواً في المحكمة العليا قبل أيام على أفول إدارته. تكتيكاتٌ تُظهر بوضوح استراتيجية ترامب الهادفة إلى التشكيك في شرعية انتخابات تشير الاستطلاعات إلى خسارته فيها، ورهانه على اللجوء إلى الكونغرس أو المحكمة العليا لترجيح كفّة فوزه بأيّ ثمن.في «اهتزاز ديمقراطية النخبة» قبل أربعة أعوام، استعرضنا بعض علامات الصدأ التي بدأت بالظهور على ماكينة الديمقراطية الأميركية، ومنها فقدان الناخب الأميركي الثقة بشفافية العملية الانتخابية، ويأسه مِن إيصال مَن يشبهه ويتفهّم همومه إلى السلطة، وإحباطه من خيار وحيد: «إمّا انتخاب السيّئ أو الأسوأ»، وبالتالي عزوفه عن المشاركة، وهو ما حصل حين تفاجأ الجميع بانتخاب ترامب رئيساً بأقلّ من نصف المقترعين أو ما يقارب ربع المؤهّلين للاقتراع. فهل تكمن الأزمة في الناخب المحبَط؟
قد تكون من المفيد الإشارة إلى أن قادة الثورة الأميركية (1775 - 1783) ضدّ السلطات البريطانية احتجاجاً على فرضها المزيد من الضرائب على سكّان المستعمرات الأميركية لتمويل حروبها ضدّ فرنسا، ومنهم الآباء المؤسِّسون الذين أعلنوا وثيقة الاستقلال (4 تموز/ يوليو 1776) ومن بعدها قاموا بإعداد دستور البلاد الجديد (1787)، كانوا جميعاً مدفوعين بحوافز حماية مصالحهم الخاصة مثل عدم دفع ضرائب على منتجات مزارعهم المترامية، وحرية التجارة مع مَن يشاؤون وليس فقط مع التاج البريطاني، أي ليس ما يتمّ تلقينه في المدارس من أن الثورة كانت من أجل «الحرية والحياة والسعي لتحقيق السعادة... لجميع الرجال الذين ولدوا سواسية». فمَن كانوا مؤهّلين من هؤلاء الرجال للتمتّع بمثل هكذا حقوق (ومنها حق الاقتراع) لم يتجاوزوا أيام رئاسة جورج واشنطن الـ6% من مجموع السكّان؛ ذلك أن تعريف «الرجل» انطبق فقط على الرجل الأبيض الحرّ ومالك المساحات الكبيرة من الأراضي. خشي المؤسِّسون من غلبة أكثرية السكّان على مصالحهم المادية، ولذا وضعوا عوائق أمام التمثيل الشعبي الحقيقي، منها عدم الاعتماد على أصوات غالبية الناخبين لاختيار رئيس أميركا، بل تمّ اختراع «الكلية الاقتراعية» بأعضائها الـ538 (عدد يساوي أعضاء مجلسَي الكونغرس + مقاطعة دي.سي) لكي تنتخب الرئيس، وقد عُهد في اختيار أعضائها إلى مسؤولي الولايات المختلفة. وقد مَنحت هذه «الكلية الاقتراعية» منصب الرئاسة إلى الخاسر في الانتخابات خمس مرّات في تاريخ أميركا، آخرها منحها ترامب الرئاسة على الرغم من تفوّق هيلاري كلينتون عليه بما يقارب الثلاثة ملايين صوت.
إلا أن توسّع الدولة المتسارع جغرافياً في القرن التاسع عشر، واكتسابها قوة اقتصادية هائلة، مع تدفّق ملايين المهاجرين الجدد، والاكتساب التدريجي لفئات من المواطنين لحقوق الاقتراع (النساء 1920) والأفارقة (1965)، كلّها عوامل سمحت «لبعض المفكّرين المجتهدين بإضفاء رداء ديمقراطي على جمهورية خجولة في وعيها لذاتها». كذلك، سمحت للمواطن العادي بالتغاضي عن تحيّز النظام القائم لمصلحة النخبة، لتصبح قاعدة الناخب للحكم على مصلحته الفردية تقوم على معادلة بسيطة: «طالما أن فرصة حصولي على مكاسب مادية تفوق ما حصل عليه والدي، وفرصة ابني تفوق ما حصلت عليه أنا، فإن الأمور تكون مقبولة»، أي مقولة إن «الناخب الأميركي يُصوّت عبر جيبه». غير أن هذه المعادلة التي آتت أكلها على مدى أكثر من قرنين من الزمن بدأت بالتلاشي. اليوم، يجد «جيل الألفية» نفسه مضطراً للجوء إلى أبويه للمساعدة في شقّ طريقه المستقل، أو العودة إلى منزل والديه للعيش حيث لا قدرة لديه على الاستقلال بشؤونه المادية، نظراً إلى تغيّر طبيعة الاقتصاد الأميركي، وإلى غياب الفائض المادي في ظلّ اتساع فجوة توزيع الثروة. هذا هو الناخب الأميركي اليوم، يكتشف أن هذا النظام لا يُمثّل مصالحه (لو كان كذلك لحصل كلّ مواطن أميركي على التعليم الجامعي مجّاناً، ولكانت الطبابة المجانية متاحة للجميع، ولوُجدت قيود صارمة على تدفّق الأموال اللامحدود إلى الحملات الانتخابية، ولكانت القيود أكثر صرامة على حرية حمل السلاح الفردي؛ فهذه كلّها تحظى بتأييد غالبية الشعب الأميركي، بل حتى غالبية الحروب الخارجية لما كانت لتُشنّ (فالشعب الأميركي عارض غزو العراق بنسبة تفوق الـ70%).
لم يعد التغيير الشكلي عن طريق التناوب على الحكم يشكّل حلّاً ناجعاً


إذاً، ديمقراطية النخبة هي المأزومة اليوم، ولم يعد التغيير الشكلي عن طريق التناوب على الحكم بين الديمقراطيين والجمهوريين كلّ أربع أو ثماني سنوات يشكّل حلّاً ناجعاً لأزمتها. سعى الشباب الأميركي بكلّ ما أوتي من عزم على التغيير، خلال الدورات القليلة الماضية، إلى ترشيح وجوه تُمثّله مثل بيرني ساندرز الذي كاد يفوز بترشيح الحزب الديمقراطي (2016) لولا تآمر ماكينة الحزب المدعومة من أصحاب المليارديرات وتفضيلها هيلاري عليه، وتركها الشباب الساعي إلى التغيير عرضة لليأس والإحباط بسبب عدم توفّر مرشحين يمثّلون طموحاته. «لكن الولايات المتحدة هي دولة مؤسّسات عريقة، وقد مرّت في ظروف انتخابية صعبة من قَبل، واستطاعت تخطّيها. فلماذا هكذا مقالات متشائمة مثل: هل ستَكسر هذه الانتخابات أميركا؟». «ألم تستطع تخطّي آثار أزمة انتخابات عام 2000، التي شهدت ما شهدته من طعون ودعاوى قضائية على خلفية اقتراع فلوريدا المشوب بالفساد؟». أربعة عوامل رئيسة تُميّز انتخابات 2020، وكلّ منها يستطيع منفرداً أن يلقي بظلال الشكّ على أيّ دورة انتخابية، فكيف لو اجتمعت كلّها في هذه الدورة؟
1- تعقيدات العملية الاقتراعية:
خلافاً لمعظم الديمقراطيات الشعبية المباشرة، يدلي الناخب الأميركي بصوته (3 تشرين الثاني/ نوفمبر)، ليس لكي ينتخب رئيساً للبلاد، بل لانتخاب مقترعين يمثلون ولايته في عملية انتخاب الرئيس رسمياً (14 كانون الأول/ ديسمبر)، وهؤلاء المقترعون الـ538 يتمّ اختيارهم من مسؤولي الولايات الخمسين، الذين يخضعون بدورهم لتأثيرات متعدّدة منها إرادة ناخبيهم، وقياديّي أحزابهم، ومصالحهم الشخصية. وعلى رغم أن العرف يقول بأن عليهم أن يعكسوا إرادة ناخبي الولاية، إلا أن ذلك ليس مكفولاً بالقانون. في هذه الدورة المشحونة بالتوتر، لا يمكن الركون إلى أعراف وممارسات سابقة.
2- أجواء العنف السائد في الشارع:
شهدت العديد من المدن الأميركية، هذا العام، موجات من العنف المسلّح، أدت إلى مقتل وجرح العديد من المواطنين على يد الشرطة أو عناصر مجهولين، ما تسبّب بدوره بظهور جماعات منظّمة ومسلّحة، بعضها بدافع حماية النفس من الشرطة، وبعضها الآخر مكوّن من ميليشيات عنصرية معروفة، وثالثها من «الفوضويين»، وقد شهدت مبيعات الأسلحة، ومن ضمنها البازوكا وغيرها من الأسلحة كمضادّات الدروع، ارتفاعاً كبيراً مقارنة مع سنوات سابقة. إحدى المجموعات العنصرية البيضاء التي عَرّفت عن نفسها بـ«الأولاد المتفاخرون»، وبأنها تسعى إلى حماية الممتلكات العامة من تظاهرات «حياة السود مهمة»، تَحدّث إليها ترامب في أحد خطاباته قائلاً: «خذوا خطوة للوراء وابقوا على جاهزيتكم». كما دعا مع غيره من قيادات الجمهوريين إلى تطوّع خمسين ألفاً «لحماية صناديق الاقتراع»، وللتأكد من «قانونية بعض المقترعين»، في إشارة صريحة، بل دعوة إلى التنمّر ضدّ الناخبين من الأقلّيات. فمَن سيضبط إيقاع كلّ هؤلاء «المتطوّعين» أو المسلّحين؟
3-وباء «كوفيد - 19»:
دورة 2020 هي أوّل انتخابات تجري في ظروف وباء عالمي يتطلّب حجراً وتباعداً، ويُشجّع على الاقتراع عن طريق البريد والاقتراع المبكر. تُقدَّر نسبة المقترعين لمصلحة بايدن عن طريق البريد بـ 36% من مجموع مناصريه، أي أن تَقدّمه بـ10-12% على ترامب (بحسب آخر الاستطلاعات) قد يَتحوّل إلى خسارة لو تمّ إلغاء هذه الأصوات مثلاً. وهناك عدة سيناريوات قد تؤدّي إلى هكذا إلغاء، منها طول المدة المسموح بها لعدّ وفرز وتثبيت هذه الأصوات.
4- شخصية ترامب النرجسية:
هناك شبه إجماع على أن ترامب مصاب بمتلازمة «الشخصية النرجسية المضطربة»، التي لا تقبل الاعتراف بالهزيمة تحت أيّ ظرف، وهناك ما يكفي من الدلائل على إصابته بهذا المرض على مدار سنوات حكمه الأربع الماضية. فهو الذي صرّح بأن الاقتراع عبر البريد هو «أكبر عملية تزوير في التاريخ»، كأنما يستعدّ لإنكار هزيمته لو حصلت، وإلقاء اللوم على تزوير العملية الانتخابية. كما يحثّ مؤيّديه على عدم التصويت عن طريق البريد، بل حضورياً، وفي يوم الاقتراع، ما يثير شكوكاً حول سعي ما لإلغاء الأصوات البريدية. شكوكٌ لها ما يُبرّرها؛ فقد قام ترامب في حزيران/ يونيو الفائت بتعيين أحد مُموّلي حملته، لويس دي جوي، وبطريقة مشبوهة، مديراً لهيئة البريد الأميركي التي ستشرف على فرز الأصوات الانتخابية. وكان من أولى خطوات المدير الجديد تخفيض عديد الموظّفين (بداعي محاربة الفساد)، وإجراء تبديلات في صفوف الإدارة العليا وتغيير في الروتين العملياتي، وإقفال 10% من مراكز الفرز، وسحب تخصيص الدرجة الأولى من بطاقات الاقتراع البريدي، وغيرها من الإجراءات التي لا يمكن تفسيرها سوى بمحاولة إبطاء أو تعطيل الفرز في وقت مناسب، وإلغاء أعداد من الأصوات، وتأخير إعلان نتائج الانتخابات... إلخ. وهو ما سيضفي نوعاً من الطعن بأحقية هكذا أصوات (هناك أحاديث عن خطط لنشر مقاطع تصوير وهمية لعمليات سرقة للصناديق أو إحراق بعضها وافتعال اشتباكات قرب أو في مراكز البريد... إلخ). لذلك، كلّ ما على ترامب النجاح فيه، خصوصاً لو كانت النتائج متقاربة، هو رفع منسوب الشكّ في الأصوات البريدية، كي يلجأ حينها إلى الكونغرس أو إلى المحكمة العليا (التي أمّن فيها للتوّ أكثرية 6 من9 أصل) للبتّ في نتيجة الانتخابات لمصلحته.
كلّ هذه العوامل وغيرها قد تجتمع لتجعل من 3 تشرين الثاني/ نوفمبر مدخلاً إلى «عاصفة مثالية» تبحر أميركا إلى قلبها من دون معرفة نتائجها، كما يقول لورنس دوغلاس، الأكاديمي المتخصّص في الانتخابات الأميركية ومؤلّف كتاب «هل سيرحل؟».



ترامب واحتمال «الصفقة»


من بين هذه السيناريوات المتشائمة يبرز سيناريو متفائل عَبّر عنه جو لوكهارت في مقال في «سي أن أن» (21 تشرين الأول/ أكتوبر)، وفيه لا يَتوقّع أن يلجأ ترامب إلى إحراق نفسه برفضه القاطع التخلّي عن السلطة، بل إلى إقناع نفسه - انطلاقاً من الصفة النرجسية نفسها التي يعاني منها -، بعد جرّ البلاد والعالم إلى حافة الهاوية، بأنه يكسب لو استطاع الحصول على صفقة من نوع: الحرية مقابل السلام، أي استعداده للتخلّي عن السلطة مقابل حصوله على تعهّدات بإسقاط كلّ الدعاوى القضائية ضدّه، وإصدار عفو رئاسي شامل عنه، مع تعهّدات من المصارف الكبرى (التي تخشى الخسائر الكبيرة التي قد تلحق بها جرّاء عدم تسليمه السلطة) بأن لا تلاحق قروضه المتعثّرة، وأن تُمدّه بالمزيد من القروض. هكذا يمكنه ادّعاء «الفوز»، كي ينصرف إلى عيشة هانئة، وإلى تحقيق حلمه بامتلاك محطّة إعلامية تحمل اسمه. وهو حلم لطالما راود أناه العليا المتضخّمة.

* مترجم فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا