يتجاوز رفع حظر التسلّح الدولي عن إيران مجرّد كونه ترجمة لمادّة في اتفاق، أو حتى نتيجة فشل إدارة دونالد ترامب في إقناع دول مجلس الأمن بتمديده بهدف إحكام الطوق على طهران، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. فهو أيضاً مؤشّر إلى نتائج مرحلة كاملة من «الضغوط القصوى» الأميركية، ومحطّة تأسيسية تتخوّف تل أبيب من تداعياتها على معادلات القوة بينها وبين قوى المقاومة في لبنان وفلسطين.أولى الدلالات التي ينطوي عليها القرار هي فشل سياسة «الضغوط القصوى» التي مارستها الولايات المتحدة ضدّ إيران، والتي وضعت إسرائيل رهانها عليها في التخلّص من التهديد الإيراني على الأمن القومي الإسرائيلي. وسبق أن التقط «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب مؤشّرات هذا الفشل مع بداية السنة الجارية، حيث أشار في تقديره الاستراتيجي السنوي إلى إخفاق الرهانات الإسرائيلية على السياسة الهجومية التي اعتمدتها إدارة ترامب: فلا النظام في إيران انهار، ولا خضع للإرادة الأميركية، ولا شَنّت واشنطن حرباً لإسقاطه نتيجة صموده وتصميمه على التمسّك بخياراته النووية والصاروخية والإقليمية.
وعلى الرغم من تنوّع دوافع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن من وراء الامتناع عن مجاراة الولايات المتحدة في الموقف من تمديد الحظر، إلا أنها ارتكزت جميعها، هي الأخرى، إلى حقيقة صمود إيران، وإدراك أن الأخيرة ستردّ على الخرق الدولي بسقوف تتجاوز ما تمّ تنفيذه حتى الآن، من بوابة برنامجها النووي، والسبب بكلّ بساطة هو أن تمديد الحظر يعني انقلاب جميع هذه الدول على الاتفاق الذي وقّعت عليه، والإعلان عن عزمها حرمان طهران من حقوقها.
ومع أن الدول الأوروبية حاولت أن تحجز، من خلال عدم مجاراتها للولايات المتحدة، موقعاً متقدّماً لها في السوق الاقتصادي الإيراني، ولو لاحقاً، وتُقارب البرنامج النووي لطهران بمعايير الأمن القومي الأوروبي، إلا أنها تؤكد، أيضاً، نظرتها إلى المآلات المرجّحة لهذا المسار، والتي ليس من بينها خضوع إيران أو إسقاطها. هكذا، تسهم هذه المحطة في تظهير تراجع الهيمنة الأميركية الأحادية، وهو ما كانت حذّرت منه الأجهزة الاستخبارية في كيان العدو قبل خروج إدارة ترامب من الاتفاق عام 2018، حيث أشارت إلى أن الخروج الأحادي سيؤدّي إلى انقسام دولي في الموقف من إيران، وهو ما سيصبّ في مصلحة الأخيرة. تقديرٌ يبدو واضحاً أنه استند في حينه إلى الإقرار بأن النظام الإيراني لن يخضع، ولن ينقلب عليه شعبه، ولن تلجأ الولايات المتحدة إلى خيار الحرب العسكرية المباشرة ضدّه، الأمر الذي سيضع الدول العظمى أمام خيارات ضيّقة، لتنقسم إلى محاور متقابلة في الموقف من البرنامج النووي الإيراني، الذي لا يزال يمتلك مقوّمات استمراره وتطوّره.
قد تستغلّ إيران رفع حظر السلاح من أجل التوصّل إلى صفقات سلاح كبيرة ومتطوّرة


بالنسبة إلى تل أبيب، أظهر انقضاء حظر التسلّح عمق الحضور الدولي والإقليمي لإيران في صراع الإرادات المباشر مع الولايات المتحدة، وكشف في المقابل محدودية الخيارات الذاتية الإسرائيلية في مواجهة «الجمهورية الإسلامية»، من دون أن تُغيّر في ذلك الاعتداءات المتكرّرة في سوريا، والتي لها سياقاتها وقيودها. وما يرفع من منسوب المخاوف لدى إسرائيل، إدراكها أكثر من أيّ طرف آخر حقيقة أن إيران استطاعت أن تُطوّر قدراتها الصاروخية والعسكرية في ظلّ حصار اقتصادي خانق، مقرون بضغوط أمنية وسياسية ونفسية، والأمر نفسه ينسحب على تطوّرها الاقتصادي والصناعي والعلمي. ويعني هذا، من منظور تل أبيب، أن طهران ستقطع أشواطاً هائلة بعد رفع الحظر عنها، ما من شأنه مفاقمة التهديد الذي تُمثّله ومعها قوى المقاومة في المنطقة.
ومن ضمن القراءات التي حاولت استشراف تداعيات هذا المسار، ما صدر عن «معهد أبحاث الأمن القومي»، الذي تَخوّف من أن تستغلّ إيران رفع حظر السلاح من أجل التوصّل إلى صفقات سلاح كبيرة ومتطوّرة مع كلّ مِن روسيا والصين وكوريا الشمالية. وتوقّع مُعِدّ القراءة، الباحث المختص بالشؤون الإيرانية أفرايم كام، أن تُركّز إيران في هذا السياق على محاولة تحديث سلاحها الجوّي، الذي يُعدّ إحدى نقاط الضعف الكبيرة لديها. إلّا أن التوجّه المتقدّم ليس محسوماً بالنسبة إلى كام، خصوصاً في ظلّ امتلاك إيران منظومة صواريخ متطوّرة، كان لها الدور الأبرز في بلورة معادلة الردع التي حمت عمقها الاستراتيجي، ومَكّنتها من الصمود في مواجهة سياسة التهويل الأميركية، وردعت الولايات المتحدة عن المغامرة العسكرية التي تهدّد بنية النظام الاقتصادية والعسكرية، وأسهمت أيضاً في إرساء معادلة الردع التي نجح «حزب الله» في فرضها على كيان إسرائيل، مع ما لدى الأخيرة من قدرات عسكرية متطوّرة. ومن هنا، لا يُستبَعد أن تُركّز إيران، بعد رفع الحظر عنها، على تطوير تلك المنظومة وتعزيزها.
وفي مقابل المخاوف الإسرائيلية من شرعنة بيع الأسلحة لإيران وشرائها منها، تطرّق المعهد إلى العديد من العقبات التي تراهن تل أبيب على أن تساهم في الحدّ من استثمار الإيرانيين للإنجاز الأخير. ولاحظت القراءة، في هذا السياق، أن روسيا لم تُبد تاريخياً حماساً كبيراً لتزويد إيران بالسلاح، ومن أبرز النماذج على ذلك، تزويد موسكو لطهران بمنظومة الدفاع الجوي «أس 300» بعد 17 عاماً من تقديم الإيرانيين طلباً بها. على أن ما تقدّم قد لا يحول دون توصّل روسيا وإيران إلى صفقات سلاح كبيرة، في حال تمكّنت الأخيرة من تجنيد المبالغ اللازمة لها. أيضاً، تراهن تل أبيب على مفاعيل الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجهها طهران، مفترضةً أنها ستحدّ من قدرتها على توفير المصادر المالية اللازمة لشراء السلاح، إلى جانب توقّعها أن تلجأ الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على أيّ شركة أو دولة تُقدِم على تزويد الإيرانيين بمنظومات سلاح متطوّر، كونه يهدّد مصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة، ولا سيما إسرائيل والسعودية.
في سياق المخاوف أيضاً، توقّفت القراءة عند أهمّ مرتكزات استراتيجية الأمن القومي الإيراني، التي تتمثّل في اعتماد سياسة تحقيق «الاكتفاء الذاتي» من السلاح والمنظومات القتالية، بهدف تقليص الحاجة إلى السلاح الأجنبي. ويعني ذلك أن رفع الحظر سيساعد طهران على الحصول على المواد التي يمكن توظيفها في إنتاج السلاح وتطويره، وخاصة أن إيران تنتج نحو 90% من السلاح الذي تستخدمه. ومن هنا، لفت المعهد إلى إمكانية استغلال طهران لرفع الحظر في التعاون الثنائي مع الصين وكوريا الشمالية في مجال تطوير السلاح، أكثر من التوجّه إلى صفقات شراء سلاح.
على أيّ حال، خلُصت القراءة إلى أن تحوُّل إيران إلى دولة مصدّرة للسلاح ينطوي على مخاطر كبيرة على إسرائيل، انطلاقاً من أن ذلك سيسمح لها برفع مستوى تطوّر الوسائل القتالية التي تزوّد بها حلفاءها في قوى المقاومة، وتحديداً «حزب الله» و«حماس» و«الجهاد الإسلامي».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا