وجود إجماع بين النخب السياسية الأميركية على أن الصين تمثّل التحدّي الاستراتيجي الأوّل بالنسبة إلى بلادها في العقود المقبلة لا يلغي الخلاف المتزايد على كيفية التعامل معه. خطاب وزير الخارجية مايك بومبيو في مكتبة ومتحف ريتشارد نيكسون في كاليفورنيا، في الـ23 من تموز/يوليو الحالي، والذي قدّم فيه استراتيجية واشنطن الجديدة حيال الصين على أنها «الانخراط مع الشعب الصيني وتمكينه، وهو شعب ديناميكي، ومحب للحرية، ومتمايز تماماً عن الحزب الشيوعي»، يعني ببساطة أن صاحبه، والتيار الذي يمثّل، الذي يقود حالياً السياسة الأميركية، يسعى لتغيير النظام في الصين!وكان إلي لايك، المختص بشؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية على موقع «بلومبرغ»، والذي ليس لديه أيّ ودّ تجاه الصين، قد اختار لمقاله، في الثامن من الشهر الحالي، عنواناً ذا مغزى: «الولايات المتحدة تسعى إلى تحويل الصين إلى إيران أخرى». ليس صدفة حديث أقطاب إدارة ترامب عن حرب باردة جديدة مع الصين. فإضافة إلى استعادة السردية الأيديولوجية عن المواجهة الحتمية بين الأنظمة «الديمقراطية» وتلك «الشمولية»، وتوظيفها للتعبئة السياسية والانتخابية في الداخل الأميركي، فإن غاية مثل هذا الحديث هي تأكيد أن الصراع الصيني-الأميركي سيصل بالضرورة إلى نهايات مشابهة لتلك التي وصل إليها الصراع مع الاتحاد السوفياتي، أي سقوط «الأشرار» وانتصار «الأخيار».
في مقابل هذا التيار، يبرز تيار آخر يضم قطاعاً وازناً من النخب السياسية الأميركية، وقد يكون له قدر من التأثير على رؤى المرشح جو بايدن، مؤيد لاحتواء صعود الصين، وهي سياسة بدأ باعتمادها الرئيس السابق باراك أوباما، من أجل وقفها والتفاوض معها من موقع مهيمن. ولكن أصحاب هذا الرأي يحذرون من خطورة العودة إلى منطق الحرب الباردة للتصدي لقوة تفوق قدراتها نوعياً تلك التي تمتع بها الاتحاد السوفياتي، وفي سياق دولي مختلف جذرياً عن ذلك الذي ساد حتى انهياره.
المناورات العسكرية التي جرت في خلال الأسبوع الماضي بشكل متزامن في المحيطين الهندي والهادئ، بقيادة أميركية وبمشاركة أستراليا واليابان والهند، تندرج في إطار التصعيد الأميركي المستمر ضد الصين. دعوة الهند إلى المشاركة في مؤتمر مجموعة الدول الـ7، التي تضم عادة البلدان الغربية واليابان، من قبل دونالد ترامب، وتوسيعها لتشمل 11 دولة مشاركة هذه السنة، بينها أستراليا وكوريا الجنوبية وروسيا، هي أيضاً خطوات تندرج في الإطار نفسه.
لا يعارض أنصار «الواقعية المستنيرة»، كما يسميها روبرت كابلان، الحائز كرسي «روبرت ستروس هوبي» في الجيوسياسة في «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، والذي عمل في مجلس سياسات الدفاع في وزارة الدفاع الأميركية بين 2009 و2014، ما يعتبرونه ضرورات يفرضها تنافس القوى الكبرى. لكن السؤال الوجيه بنظر كابلان هو ليس إذا ما كانت الصين قد أضحت إمبراطورية، بل هو عن طبيعة هذه الإمبراطورية. هو يقسّم الإمبراطوريات تاريخياً إلى قارّية وبحرية، ويجزم بأن تلك القارّية أكثر عدوانية، لأنها معنية دائماً بمنع انتهاك حدودها، بينما تلك البحرية أقل عدوانية، لأن البحار والمحيطات تؤمّن لها «حماية طبيعية». وبمعزل عن مدى صوابية مثل هذا التمييز، هو يخلص إلى أن الصين إمبراطورية قارّية وبحرية في الآن نفسه، وأن هذه «الطبيعة المزدوجة تدفع الصين إلى أن تكون عدوانية وكوزموبوليتية في الآن نفسه. وبينما تقوم بقمع شعب الإيغور المسلم، الذي يقف حجر عثرة في طريق مشروع الحزام والطريق في البر، تصدّر سلعها الاستهلاكية عبر أسطولها التجاري إلى أفريقيا ومناطق أخرى، وتسوّق منتجات حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي... هي ستتعامل مع الأنظمة بغض النظر عن قيمها، أكانت استبدادية أم ديموقراطية، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. هي تطمح إلى تغيير تراتبية القوة على صعيد عالمي عبر التفوق على الولايات المتحدة، لكنها من جهة أخرى معنية بالحفاظ على الأوضاع السائدة. وعلى عكس الولايات المتحدة التي كثيراً ما حاولت تغيير البنى الداخلية ومنظومة قيم الدول التي تصنفها سلطوية، فإن الصين لا تتدخل في الترتيبات السياسية الداخلية للبلدان». وبنظر كابلان، فإن التعاون بين الصين وروسيا متصل أوّلاً بالجغرافيا السياسية للغاز الطبيعي، قبل أي اعتبار آخر، كما أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بينها وبين إيران ترتبط بأهمية موقع الأخيرة بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بالنسبة إليها، وبامتلاكها للنفط والغاز وبأن شعبها متعلّم، ويعدّ 83 مليون مستهلك محتمل لمنتجاتها. وإذا كانت الصين تظهر حزماً شديداً تجاه ما تعتبره مساساً بحدودها الفعلية أو «المتخيلة»، والتعبير لكابلان، «فإنها في خارجها تبحث عن الانسجام بدلاً من الصراع حول القيم».
بكلام آخر، فإن النصيحة التي يقدّمها الخبير لبايدن هي احتواء الصين من خلال تعزيز تحالفات الولايات المتحدة مع جوارها الآسيوي وإحياء الشراكة عبر المحيط الهادئ التي ألغاها ترامب، وتقديم نموذج بديل ممّا يصفه بـ»منظومتها الإمبراطورية»، أي مشروع «الحزام والطريق»، يتمايز على مستوى القيم واحترام حقوق الانسان... من الواضح أن هذه المقاربة، حتى ولو لم يعترف صاحبها بذلك، تنطلق من واقع أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الهيمنة الأحادية كما فعلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأن ما تستطيعه، بدلاً من الذهاب إلى مواجهة مفتوحة وخطرة مع الصين، هو تأمين أفضل الشروط للتفاوض معها من موقع قوة، عبر إحياء تحالفاتها التي أضعفها ترامب. وكان زبغنيو بريجنسكي، في آخر كتاب صدر له سنة 2010، «رؤية استراتيجية»، قد نصح القادة الأميركيين بالتخلي عن فكرة الهيمنة الأحادية والعمل على أن تكون الولايات المتحدة «أولى بين متساوين»، أي تقبل بصعود قوى أخرى وباتساع دائرة نفوذها، بشرط أن تكون الإدارة المشتركة لشؤون العالم بإشراف أميركي. تجاوزت تحولات موازين القوى اليوم مثل هذه الرؤية، التي لم يعمل بها القادة الأميركيون، وبات المطلوب بالنسبة إلى المستنيرين بينهم، تقديم رؤى أخرى تسوّغ تنظيم التراجع لا أكثر.