صادقت الحكومة الإسرائيلية على اتفاقية اقتصادية طموحة موقعة بالأحرف الأولى مع قبرص واليونان لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا. المصادقة التي كان لها صدى إعلامي في الكيان وخارجه قد تكون «فقاعة»، وتظهر أكثر من حقيقتها، إذ دون تنفيذ الاتفاقية عراقيل وعقبات، وإن كانت الدعاية العبرية منفلشة جداً إزاءها لأكثر من سبب ودافع، داخلي وخارجي. الحديث يتعلق بمصادقة على اتفاقية وقعت عليها، في الثاني من كانون الثاني/يناير الماضي، الدولُ المذكورة، إضافة إلى وزير الطاقة الإسرائيلي في حينه، يوفال شتاينتس. وهي من ناحية فعلية تعبير عن طموح إسرائيلي في دمج مصلحة قبرص واليونان، وكذلك إيطاليا، مع المصلحة الاقتصادية لإسرائيل، عبر إشراك هذه الدول بخطة نقل الغاز الإسرائيلي إلى القارة الأوروبية، خاصة أن الدول الثلاث أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومن شأن إشراكهم جلب فائدة لإسرائيل على أكثر من اتجاه ومستوى.وللتوضيح، الاتفاقية المذكورة بالنسبة إلى قبرص واليونان وكذلك إيطاليا، والاتحاد الأوروبي من ورائهم، لزوم ما لا يلزم اقتصادياً، خاصة أن الجانب القبرصي هو منافس اقتصادي لإسرائيل في الثروة الغازية، حجماً وقدرة وجدوى اقتصادية باتجاه السوق الأوروبية، لكونها عضواً في الاتحاد أوّلاً، وقريبة جداً من سوق القارة، من دون أي وسائل نقل مكلفة وخطرة وتحت مائية. والمنافسة بين قبرص وإسرائيل، حتى الآن، أي في مرحلة الاستكشاف والتنقيب الذي لم ينته في قبرص، مجمّدة ومن دون مفاعيل، بفعل عوامل سياسة ومصالح آنية للجانبين، لا يكفل أن تستمر على المدى الأبعد.
في الخلفية، تعد السوق الأوروبية هدفاً لغاز إسرائيل، وكانت قد بادرت إلى التخطيط للوصول إلى القارة مباشرة بعدما تبيّن في الاكتشافات والدراسات الأوّلية في مياهها الاقتصادية الخالصة أنها تحوي غازاً ونفطاً. وحتى قبل عمليات التنقيب والاستخراج، كانت العين الإسرائيلية على سوق القارة العجوز، وكذلك على أسواق آسيا حيث الطلب لا يقل، بل ربما يزيد، عن السوق الأوروبية. رصدت إسرائيل ابتداءً أنها ستلقى منافسة وعراقيل غير سهلة من دول إقليمية مرشحة لاكتشاف الغاز في مياهها، ولديها أفضليات على أكثر من صعيد، ويتعذر على إسرائيل تجاوزها، وتحديداً لدى الجانب اللبناني والقبرصي وكذلك السوري، وإن جاءت الاكتشافات اللاحقة لتضيف كذلك مصر، كمرشح منافس كبير جداً، مع احتياطيات هائلة بحسب الدراسات الأوّلية والمسوح التي نفذتها شركات إيطالية في العام 2015.
لم يكن على إسرائيل أن تحيّد سوريا التي كانت وما زالت مشغولة في حربها على الإرهاب ودفاعها عن وجودها، فيما الخلافات الداخلية في لبنان، كما هي العادة المتأصلة في هذا البلد، كانت كفيلة كما قدّرت إسرائيل بأن تكسر أفضليته، وهو كان ليؤثر سلباً على تل أبيب لو أنه دولة سوية، خاصة لجهة قرب لبنان من السوق الأوروبية وإمكاناته الجيوسياسية التي تسمح له بتجاوز ضرورات مدّ أنابيب تحت مائية مكلفة جداً، وغيرها من الأفضليات ليست مدار المعالجة الآن.
في حينه، كان المنافس الجدي، مع تحييد سوريا نتيجة حربها ولبنان نتيجة فساده وصراعاته الداخلية، الجانب القبرصي صاحب الأفضليات على أكثر من صعيد: كميات هائلة جداً من الغاز الطبيعي بحسب التقديرات؛ عضو في الاتحاد الأوروبي ويتقدّم على غيره من الدول في سوق الغاز، وقربه الجغرافي من القارة، والذي يعني تكلفة توريد منخفضة نسبياً قياساً بإسرائيل، فيما المعاملة البينية وضرورات حل التجاذب والفروق الاقتصادية بين دول الاتحاد كفيلة بتفضيل قبرص على دول خارجية.
في الموازنة بين إمكانات قبرص وإمكانات إسرائيل، لم يكن للأخيرة فرصة فعلية، وهي تدري أن التنافس خاسر، فجرى العمل على توأمة المصلحة القبرصية-اليونانية مع المصلحة الإسرائيلية، فكان التلاقي على المدى القصير، وكل بحسب سياقاته ودوافعه وحوافزه الخاصة، وإن كانت المصالح مختلفة ومتباينة جداً على المدى المتوسط والطويل. عمد الجانب القبرصي، ومن ورائه اليونان، إلى ملاقاة إسرائيل ويدها الممدودة للتوافق ومنع التنافس. السبب الإسرائيلي كان منع المنافسة الاقتصادية التي تخسر تل أبيب السوق الأوروبية، أمّا الدافع القبرصي اليوناني فسياسي وأمني، وهو موجّه ضد التهديدات التركية ونيات أنقرة في منع قبرص من استغلال مواردها، وتطالب بحصة غير محدودة من الغاز عبر استخدام الانقسام التركي - اليوناني للجزيرة القبرصية. كانت قبرص بحاجة إلى إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، لصدّ العرقلة التركية، فيما كانت إسرائيل بحاجة إلى استمالة قبرص ومنع التنافس الاقتصادي معها. وعلى هذه الخلفية عملت إسرائيل ورحّبت قبرص، واليونان من خلفها، بكل ما كانت تطلبه إسرائيل، الأمر الذي ولّد سلسلة اتفاقات أمنية وعسكرية واقتصادية وكذلك سياسية، بما يشمل تدريبات ومناورات لحماية المنشآت النفطية والغازية لقبرص، ومنها ما لم يكن قد بدأ إنشاؤه.
تشكك التقديرات كثيراً في الجدوى الاقتصادية في ظل إمكان وصول الغاز عبر السفن


وتعد اتفاقية أنبوب الغاز، الذي يصل طوله إلى 1900 كلم، واحدة من الاتفاقات التي طالبت بها تل أبيب للشراكة مع قبرص، على أن تكون الجزيرة محطة لتسييل الغاز الإسرائيلي ومن ثم نقله عبرها إلى القارة الأوروبية، وهي الجدوى التي وضعتها إسرائيل على طاولة القرار في نيقوسيا. كانت إسرائيل مستعجلة جداً كي تبادر الدولتان، قبرص واليونان، إضافة إلى إيطاليا، إلى التوقيع، وإن بالأحرف الأولى، على اتفاقية الأنبوب، إلى الحد الذي أعلنت فيه التوقيع في نهاية عام 2018، ولم تكن الدول الثلاث قد وقّعت بالفعل، بل وفوجئت بالإعلان العبري عنه. في حينه، كشفت صحيفة «معاريف» في تقرير (1/ 12/ 2018) أن اتفاقية الأنبوب باتجاه أوروبا مجرد خبر كاذب (fake news)، وأشارت إلى أن توصيف شتاينتس بوزير للطاقة هو الحقيقة الوحيدة في خبر الاتفاقية ومدّ الأنبوب، أمّا الباقي فكذب بالكامل: «ليس ولن يكون هناك في المستقبل القريب أي اتفاق لمدّ أنبوب غاز بين إسرائيل وأوروبا. لم يُوقَّع أي اتفاق كهذا، ولن يبدأ أحد بمدّ الأنبوب في الأشهر القريبة ولا في السنوات القريبة».
ورغم الإدراك أن قبرص واليونان تنكفئان عملياً وتتيحان لإسرائيل توريد غازها إلى أوروبا على حساب الغاز القبرصي، عمدت الدول الثلاث إلى التوقيع على اتفاقية الأنبوب (02/01/2020) الذي بات معروفاً باسم مشروع «إيست ميد»، من دون إيطاليا التي كان لها موقف مغاير ومشكك، وإن شاركت في محادثات طويلة مع تل أبيب بشأن الأنبوب. مرحلة ما بعد التوقيع تتطلب مسارات خاصة في كل دولة للمصادقة والبت النهائي للمشروع، كما أن مبنى الاتفاقية مرتكز بشكل رئيسي على تمويل الاتحاد الأوروبي، وكذلك القطاع الخاص، بتكلفة ستة مليارات يورو (6.86 مليارات دولار) ومن شأنه أن يحول دون تنفيذها. والتقديرات، التي يتقلّص التداول فيها في إسرائيل وإن كانت ملحوظة جداً في أوروبا، تشكك كثيراً في الجدوى الاقتصادية للمشروع، في ظل إمكان وصول الغاز عبر السفن إلى الموانئ الأوروبية من دون أعباء إضافية، خاصة مع وجود تهديدات أمنية مرتبطة بإسرائيل على أكثر من صعيد، ولا يبعد أن تترجم أعمالاً عدائية ضد الأنبوب نفسه، ما يعني إعلاء منسوب المخاطرة بلا ضرورات اقتصادية، مع وجود الغاز القبرصي الأوروبي في متناول اليد، وكذلك وسائل نقل اعتيادية من دون تهديدات.
والاتفاقية نفسها، وإن تمّت المصادقة عليها لاحقاً، تهدف إلى العمل على تأمين الاستثمار المالي النهائي بحلول عام 2022، مع تحميل الاتحاد الأوروبي نسبة وازنة من التكلفة وكذلك القطاع الخاص، وهو محل شك في حد أدنى، وإن جرى الترويج له بشكل لافت لدى التوقيع على الاتفاق بين الدول الثلاث بداية العام الحالي. معادلة التكلفة والجدوى الاقتصادية، وكذلك الجدوى الأمنية، برزت في العام الماضي في تعليقات رسمية صدرت عن الجانب الإيطالي، غير المحكوم باعتبارات أمنية وسياسية، وإن على المدى القصير، كما هي حال قبرص واليونان وخشيتهما من العرقلة التركية وغيرها من الدوافع، إذ قال وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، بعد أيام من توقيع اليونان وإسرائيل اتفاقية الأنبوب بداية العام الحالي (02/01/2020) إن مشروع خط أنابيب غاز شرق المتوسط «إيست ميد»: «لا يعد خياراً على المديين المتوسط والبعيد من حيث التكلفة والبناء».
وإن كانت الكلفة الإسرائيلية في تمويل ومن ثم تنفيذ الأنبوب منخفضة نسبياً، بناءً على المعادلات التي حكمت واقع الحوض الشرقي للبحر المتوسط في المرحلة الماضية، فهي تكاد تكون منتفية حالياً، في ظل معادلات استجدت من البوابة الليبية والحضور الإقليمي والدولي فيها، ومن بينها تزايد النفوذ التركي في المتوسط والاتفاقية الموقّعة بين أنقرة وطرابلس الغرب لتحديد المجال الاقتصادي المشترك بين الجانبين، إذ يرد في الاتفاقية أن المنطقة البحرية شرقي كريت تقع تحت السيطرة التركية، أي المنطقة التي يمر فيها أنبوب إسرائيل النفطي، بحسب الطموح، إلى أوروبا. خلال التوقيع على الاتفاقية مع الجانب اليوناني، قال وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس إن مدّ الأنبوب، الذي سيستغرق سبع سنوات من تاريخ بدء العمل فيه، أكثر أماناً من خيار المرور بالأراضي التركية. يبدو أن «فذلكة» إسرائيل بالابتعاد عن العامل التركي المانع عادت ووقعت فيه، وربما الآن بصورة أشد وأكثر تأثيراً. المعطى في ذاته كاف، فضلاً عن عوامل أخرى، كي يعرقل الأنبوب الإسرائيلي ودافعية تمويله أوروبياً، فالاتحاد أيضاً، كما القطاع الخاص المستهدف لتمويله، سيكون معنياً بأن يحول دون المخاطرة، وكذلك الخسارة، في مشروع لزوم ما لا يلزم اقتصادياً.