في الذكرى الـ567 للاستيلاء على القسطنطينية وتغيير اسمها إلى الآستانة وإسلامبول ومن ثم إلى إسطنبول، أقدمت حكومة حزب «العدالة والتنمية» على إجراء غير مسبوق، بإشراف رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان، إذ تليت، الجمعة الماضي، سورة الفتح في «آيا صوفيا» التي شيّدها البيزنطيون كنيسة وحوّلها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد، ثم حوّلها مصطفى كمال أتاتورك إلى متحف، ولا تزال كذلك حتى اليوم. غالباً ما كان يردّد إردوغان نيّته إعادة «آيا صوفيا» لتكون جامعاً، لكنه يدرك أن خطوة كهذه ليست سهلة في ظل الحساسيات بين تركيا المسلمة وأوروبا المسيحية، ولا سيما اليونان التي كانت تابعة للقسطنطينية، خصوصاً بعد ظهور الدولة البيزنطية إثر انفصالها عن الإمبراطورية الرومانية. كانت تركيا تحتفل كل سنة، في 29 أيار/مايو، بـ«فتح القسطنطينية». لكن الاحتفال لم يكن برعاية رسمية، بل بإشراف جماعات إسلامية، خصوصاً أحزاب نجم الدين أربكان.
أما الاحتفال هذه السنة فجاء رسمياً وكبيراً، وشهد عروضاً بصرية على جدران «آيا صوفيا» بالذات، عكست كيف استطاع جنود محمد الفاتح هدم أسوار القسطنطينية ودخول المدينة وشهر السيوف بوجه «الكفرة»، فضلاً عن مهرجان أغنيات ومارشات عثمانية. وتوّج الاحتفال بتلاوة سورة الفتح في الكنيسة السابقة، ومشاركة عبر الفيديو لرئيس الجمهورية الذي وصف سابقاً الحضارة البيزنطية بالحضارة السوداء.
كانت المناسبة استثنائية لإردوغان الذي رفع لواء العثمانية الجديدة ويحقّق منذ مدة نجاحات ميدانية، إذ له مراكز وقواعد في شمال العراق، ويحتل أجزاء واسعة من سوريا، ويحقّق تقدّماً عسكريا في الساحة الليبية مع حكومة فايز السراج بمواجهة اللواء خليفة حفتر المدعوم من مصر والإمارات والسعودية.
جاء الاحتفال هذه السنة رسمياً وكبيراً وشهد عروضاً بصرية على جدران «آيا صوفيا»


«رسالة الفتح» «تزكزك»، أولاً، أوروبا حيث انتقدت أثينا تلاوة سورة الفتح في الكنيسة، لكنها رسالة أكبر إلى الساحة التي يفضّلها إردوغان ويعتبرها ملعبه، أي المنطقة العربية الغائبة والعاجزة دولها الكبيرة عن مواجهة «الغازي الجديد». وغالباً ما يذكّر إردوغان بتاريخين، ويدعو الشبان الأتراك ألا يهملوهما وأن يضعاهما هدفين كبيرين لهم، وهما الذكرى الـ600 للفتح في 2053 والذكرى الألف لقيام الدولة السلجوقية في 2071.
كالعادة، انقسمت تركيا حول هذا الاحتفال بين الإسلاميين والعلمانيين. وقد وصل التعصّب لهذا اليوم حداً جعل زكي قورشون، الكاتب في صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، يشبّه فتح إسطنبول بفتح مكّة. يقول قورشون إن «فتح إسطنبول ليس أقل شاناً من فتح مكة. ففتح مكّة نقل الإسلام على يد الرسول ليكون عالمياً، وفتح إسطنبول أدّى إلى ثورة الحضارة الإسلامية»، معتبراً أن فتح إسطنبول علّم البشرية حضارة «العيش المشترك»! أمّا رئيس تحرير «يني شفق»، إبراهيم قره غول، فصبّ جام غضبه على القوى المناوئة لتركيا، شرقية وغربية، التي تريد خنق تركيا، مستخدماً كلمة «جامع» في الإشارة إلى «آيا صوفيا».
في المقابل، كان العلماني إردال أتابك يكتب في «جمهورييت» عن مثلّث «الجهاد ــ الفتح ــ الغنيمة» الذي يدخل السرور إلى قلوب التواقين لاستعادة التاريخ العثماني. يقول أتابك إن «محمد الفاتح يحتل مكانة خاصة في التاريخ العثماني، وفتح إسطنبول حلقة مهمّة في التاريخ العالمي. لكن في وقت كان فيه العثمانيون يستولون على القسطنطينية، كانت أوروبا تدخل عصر النهضة حيث كان فيها أكثر من 50 جامعة، والفلكي والفيزيائي الشهير غاليله كان أستاذ الرياضيات في جامعة بيسا. وكانت أوروبا تنهي مرحلة التيوقراطية وتدخل عصر الانسانيات والحرية والعقل والعلوم والفنون. وكان الكتاب المقدس يترجم من اللاتينية إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية. وكانت مطبعة غوتنبرغ تظهر».
أما الدولة العثمانية، يقول أتابك، فكانت خارج كل ما يجري في أوروبا، ولم تشهد أي حركة تجديدية. والمطبعة لم تدخل إليها إلا في 1730. ومنعت ترجمة القرآن لكي يقرأ بالعربية فقط، ولم يترجم إلا بأمر من أتاتورك. وإذ ينتقد الكاتب طبيعة الاحتفالات الحالية يقول: «اليوم، ومن هذه اللوحة التاريخية، يمكن فهم إلى أين تريد السلطة السياسية أن تجرّ تركيا».