ترسيخ حالة «توتاليتارية البيانات الكبرى». هكذا عرّف خصوم الصين إجراءاتها الهادفة إلى حماية الصينيين والبشرية من خطر فيروس «كورونا»، يوم جيّرت التكنولوجيا والتقنيات المتطورة لديها للتعرّف إلى المرضى وتشخيص حالاتهم أو تحذيرهم من احتمال الإصابة.وفي «بحر» الانتقادات التي وجهّت للدولة العملاقة بانتهاك خصوصية الافراد من خلال اختراق الهواتف المحمولة، يحضر رأي الخبير القانوني، تشو تشانغ رون، في مجلة «thediplomat» قبل أيام، إذ اعتبر أن مرض «كوفيد-19« شكّل «فرصة مناسبة كي يرسّخ نظام شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني هذا النموذج (توتاليتارية البيانات الكبرى) وينشره على نطاق أوسع، ما يُمهّد في نهاية المطاف لاستعماله في معظم مناطق الصين أو في البلد كله. يمكن استعمال الفيروس إذاً كعذر مناسب لتعميق السيطرة التوتاليتارية على البلد وتدمير ما تبقى من المساحة الفردية المحدودة أصلاً».
على هذا الأساس، فإن ما حصل في إسرائيل، في اليومين الماضيين، كان يفترض أن يلقى اهتمام «الغيورين على خصوصيّة الأفراد». لكنها إسرائيل... لا الصين، إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية على تعليمات حالة الطوارئ، ما يعني حالة استثنائية يتاح ضمنها استخدام إجراءات غير مألوفة، تقضي بانتهاك الخصوصية «لحماية مصلحة الجمهور وحقه في الصحة». واللافت في ذلك، إجازة الحكومة لجهاز الأمن العام (الشاباك) اختراق الهواتف الخلوية للمواطنين (بينهم مليونا فلسطيني) «من أجل تتبّع هواتف المصابين بفيروس كورونا المستجد، والموجودين في محيطهم، وأفراد عائلاتهم».
التعليمات الجديدة تمكّن «الشاباك» من استعمال الوسائل الإلكترونية والرقمية في تعقب المصابين بذريعة الإجراءات الوقائية لمنع تفشي الفيروس في أنحاء فلسطين المحتلة، بعدما ارتفع عدد المصابين في آخر تعداد إلى 324 حالة. وفي نظامي الطوارئ المنفصلين المصادق عليهما حكومياً ويتعلقان بتتبع الهواتف المحمولة، يسمح للشرطة الإسرائيلية بالحصول على معطيات اتصالات خلوية لشخص لغرض الحجر الصحي. أمّا بالنسبة إلى «الشاباك» فتسمح التعليمات الجديدة بتعقب الهواتف الخلوية للمصابين والأشخاص الذين كانوا في محيطهم في الأيام الـ14 التي سبقت التشخيص بالمرض، لإبلاغهم عبر رسالة نصية أنه يجب عليهم دخول الحجر الصحي.
يتيح نظام الطوارئ اختراق الهواتف الخلوية للمواطنين وبينهم مليونا فلسطيني


وبالنظر إلى التدابير الوقائية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية منذ بدء تفشي الوباء، يبدو واضحاً أن كثيراً منها أُقرّ متأخراً، إذ إن تعليق الدوام الدراسي لم يتّخذ إلا يوم الخميس الماضي، فيما لم تعلّق بعد خطوط النقل من قطارات وحافلات! لذلك، يمكن أن ينظر إلى الإجراء الجديد المرتبط بتتبّع الهواتف واختراقها، رغم «قانونيّته» في ظل أنظمة الطوارئ المعمول بها منذ عقود، على أنه استغلال واضح للحالة الاستثنائية من أجل اختراق خصوصية الأفراد، لأغراض قد لا ترتبط بالصحة العامة، وتحديداً الأمن، إذ يمكّن اختراق الهواتف جهاز «الشاباك» من الحصول على ملفات الأفراد، مثل الصور الشخصية، والفيديوات، والحجوزات الإلكترونية، والأماكن التي يزورونها، ودوائر علاقاتهم الاجتماعية القريبة والبعيدة، وحالاتهم الشخصية، والاهتمامات والهوايات...، فضلاً عن احتمالات زرع برامج تجسّسية وغيرها، ما يعني عدداً ضخماً من المعلومات التي يمكن أرشفتها رقمياً واستغلالها لاحقاً لأغراض الأمن، أو الابتزاز، أو حتى التجنيد! خصوصاً أن الإجراء يطبّق أيضاً على مليوني مواطن فلسطيني في الارض المحتلة عام 1948.
كل هذا يجري من دون آلية رقابية واضحة على عمل الجهاز الأمني المعروف بعدائيته للفلسطينيين تحديداً، ما دفع، أمس، مركز «عدالة» الحقوقي الى التوجه، باسم «القائمة المشتركة» (مجموعة الأحزاب العربية في الكنيست)، الى المستشار القضائي للحكومة، أفخاي مندلبليت، لمنع تطبيق إجراءات الطوارئ التي تتيح تعقب الأشخاص ومراقبتهم. وفي رسالته، استند المركز إلى أن «الحكومة لا تملك الصلاحيات التي تخوّلها اتخاذ مثل هذا القرار، خاصة أن القرار ينتهك حقوق الإنسان بشكل كبير وخطير»، مؤكداً أنه «لا يمكن للحكومة أن تتذرع بالوضع العام في البلاد والالتفاف على الرقابة المفروضة على السلطة التشريعية لانتهاك حقوق الإنسان بشكل خطير (...) إجراءات الطوارئ تخطّت الكثير من الحدود والخطوط الحمراء، وتعتبر أخطر من وباء كورونا الذي استغلته الحكومة للمصادقة على هذه الانتهاكات والسماح لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) بانتهاك خصوصية المواطنين وحقهم في الحرية والكرامة».
كما نقلت مجلة «غلوبس» الاسرائيلية عن الاستاذة في المعهد الاسرائيلي للديمقراطية، تاهيلا شوارتز - ألتشولر، تحذيرها من «الانحدار الحاد الذي ستجد فيه إسرائيل نفسها بعد الوضع الجديد»، إذ «يمكن فهم الحاجة الملحّة لجمع البيانات ونشر التحذيرات، ولكن من المهم أيضاً الحفاظ على الحق في خصوصية المواطنين».
رأي الاستاذة العاملة في المعهد الديمقراطي قد يكون مؤشراً إلى اقتراب اللحظة التي يجب فيها على الاسرائيليين النزول عن «شجرتهم الديمقراطية»، وهي قالت إن «الإساءة إلى الحقوق سهلة، ولكن إعادة الوضع إلى طبيعته ستكون أكثر صعوبة» مدّعيةً أن «إسرائيل ليست فيتنام ولا سنغافورة، وهذا (نظام الحكم الديمقراطي) فخرنا»، علماً بأن ممارسات إسرائيل على مدى عقود أثبتت أن الديمقراطية مجرد نظام حكم، لا قيم.