طهران | أحدث الردّ الإيراني على اغتيال الجنرال قاسم سليماني منعطفاً تاريخياً، وأدخل الصراع الإيراني - الأميركي مرحلة غير مسبوقة. أدّى الاغتيال إلى إدخال إيران والولايات المتحدة في مواجهة مباشرة. لا حديث هذه المرة عن «حرب بالوكالة». واشنطن، ومن خلال الاغتيال الذي كان يعني انتقال الصراع إلى نقطة الغليان، كانت تظن بأن طهران ستتراجع ولن تردّ، بما يمهّد لخوض المحادثات التي يتمناها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ فترة. أشار ترامب، في تغريدة، بعد يومين على اغتيال سليماني، إلى التهديدات التي أطلقتها طهران بالثأر، متوعّداً بصراحة بأنه إن هاجمت إيران المصالح الأميركية، سواء أكانت عسكرية أم منشآت، فسيضرب 52 موقعاً إيرانياً. ولو تحقّقت معادلة ترامب، لكان في وسعه أن يكون المنتصر في الجولة، وأن يرسم حدوداً أميركية جديدة لانتهاك أيّ خطوط حمر. لكنّ الهجوم الصاروخي على قاعدة «عين الأسد» قَلَب الطاولة. تراجَع ترامب عن استهداف إيران في كلمته بعد الضربة، وتحدّث عن ضرورة «السلام» وضرورة «تقليص الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط» والمصلحة المشتركة لواشنطن وطهران في «مكافحة داعش».
معادلة أمنية جديدة
لن يكون «الخيار العسكري» بعد الآن موضوعاً بهذه البساطة على طاولة الأميركيين. الردّ الايراني أوجد مستوى من الردع مقابل واشنطن، وأزاح عن إيران شبح «أسوأ السيناريوات»، أي «الحرب»، من خلال تشكيل نوع من التوازن. هذا الوضع يمكن له أن يزيد من اعتداد إيران ومحور المقاومة بالنفس في مواجهة الولايات المتحدة. وبحسب مقال في صحيفة «إيران» الحكومية، فإن «الثأر الإيراني الذي استهدف للمرة الأولى مقرّاً للجنود الأميركيين بصورة مباشرة من قِبَل دولة عضو في الأمم المتحدة، أحيا وجَدّد الردع المفقود مرة أخرى. وفي التقييم النهائي، فإن أميركا تمرّ اليوم بوضع أسوأ في المنطقة مقارنة بإيران. وعلى الرغم من أن استشهاد سليماني شَكّل ضربة عاطفية قاسية لإيران ومحور المقاومة، لكنّ استشهاده لن يُغيّر من هيكليات وسياسات وأداء محور المقاومة. العميد قاآني سيضطلع بالدور ذاته، في ضوء خبرة طويلة بوصفه نائب قائد فيلق القدس، واليوم بالتجربة المريرة المتمثلة باغتيال الفريق سليماني». وأضافت الصحيفة أن «أميركا تخضع للضغط القانوني لإنهاء وجودها العسكري في العراق، وحتى إن لم تستجب لهذا الطلب على وجه السرعة فإن أداء القوات العسكرية في العراق لن يكون بنفس بساطة الأعوام الماضية. صحيح أن إيران انتقمت بصورة محدّدة، لكنّ مجموعات المقاومة التي تكنّ اليوم كراهية أكبر لأميركا على خلفية اغتيال رفاقها في النضال، لا تزال تشكّل خطراً كبيراً على أميركا».

الاتفاق النووي
أحد تداعيات التصعيد ما بعد اغتيال سليماني تَمثّل في المزيد من تراجع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى. وعلى الرغم من أن الاتفاق كان قد حُشر في الزاوية مع الانسحاب الأميركي منه وعجز الدول الأوروبية عن توفير مصالح طهران بموجبه، إلا أن اغتيال سليماني أدى إلى تسارع وتيرة مسار التراجع، وجعل الاتفاق يمرّ بأضعف حالاته فعلياً. أعلنت إيران، الأحد الماضي، «الخطوة الخامسة» والنهائية من خفض التزاماتها الواردة في الاتفاق. وتأسيساً على ذلك، فإنها لن تواجه أيّ قيود في المجال العملياتي (بما يشمل طاقة التخصيب والنسبة المئوية للتخصيب ونسبة المواد المخصّبة والبحوث والتنمية). لكنها أعلنت أيضاً أنه إن نَفّذ الأوروبيون التزاماتهم، فسيكون بالإمكان الرجوع عن خطوتها، التي اتُّخذت الحلقة الأخيرة منها قبل الموعد المحدّد لها بأربعة أيام، إذ كان لاستشهاد الفريق سليماني أثر على الإعلان المبكر. غياب ردة الفعل الأوروبية الملائمة تجاه الاغتيال لم يُبقِ شكاً لدى طهران في ضرورة أن تتخذ إجراءاتها «العقابية» بحزم، لإعطاء دفع لحلفاء واشنطن. ومن المقرّر أن يشارك المساعد والمتحدث باسم مؤسسة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، في مؤتمر صحافي اليوم، ليشرح تفاصيل «الخطوة الخامسة» لخفض الالتزامات النووية ومستجدّات النشاطات النووية الإيرانية.
الردّ أوجد مستوى من الردع مقابل واشنطن وأزاح عن إيران شبح «أسوأ السيناريوات»


وكان ترامب قد كرّر، في كلمته الأربعاء الماضي، أنه آن الأوان كي تفهم بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين حقيقة أنها يجب أن تنسحب مما تبقّى من الصفقة النووية. لكن، وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية لم تستطع حتى الآن تعويض المصالح التي خسرتها إيران، فهي لا تزال تقول إنها ملتزمة بالاتفاق، وتدعو طهران إلى وقف خفض التزاماتها. إلا أنها، في الوقت نفسه، تلوّح باحتمال استخدامها آلية حلّ الخلاف في الاتفاق، والتي تشمل تبليغ اللجنة المشتركة (تضمّ في عضويتها الدول الأعضاء) بنشوب خلاف بين إيران وأحد الأعضاء. وفي حال فشلت هذه اللجنة في تسوية الخلاف، فسيتمّ إرجاعه إلى مجلس الأمن الدولي. وإن لم يتمكن المجلس في غضون 30 يوماً من المصادقة على تمديد رفع العقوبات، فإن عقوباته التي كانت مفروضة قبل الاتفاق ستعود مرة أخرى.
كلّ ذلك يقود إلى الاعتقاد بأن الاتفاق يشهد انهياراً بالفعل. والتطورات الأخيرة أسهمت أيضاً في عدم سماع صوت حماته داخل الحكومة الإيرانية، إذ أصبح موقفهم أضعف. وقالت صحيفة «جوان» التابعة للحرس الثوري: «إيران لا تنوي حالياً زيادة التخصيب تلقائياً ومن دون ذريعة، لكن إن كانت الدول الأوروبية بصدد الإفادة من آلية الزناد وعودة الملف الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، فإن إيران لن تتردّد في زيادة نسبة ونطاق التخصيب. ومن جهة أخرى، فإن إيران ما زالت تنوي مواصلة تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وسيتمّ الحفاظ على عمليات المراقبة أونلاين. قطع عمليات التفتيش يُعدّ إمكانية أخرى تمتلكها إيران لمواجهة أيّ إجراء آخر». وتابعت الصحيفة: «وعلى أيّ حال، يجب القول إن الاتفاق النووي قد وصل إلى نهايته فعلياً، وكان عدم وفاء الدول الغربية، ولا سيّما أميركا، بتعهّداتها، وراء العمر القصير لهذا الاتفاق. وبلا شكّ، فإن أداء الغربيين هو بمنزلة مصباح يضيء الطريق لإيران في أيّ محادثات مع الغربيين، طبعاً إن كانت قد بقيت فرصة أخرى للمحادثات والدبلوماسية».