كان ذلك ذات مساء بارد، مطلع شهر آذار عام 2015. في اليوم الأول من عمليات «لبيك يا رسول الله» المخطط لها أن تحرر نحو ألفي كلم مربع شرقي نهر دجلة ما بين سامراء وبيجي باتجاه نهر العظيم. صعد الحاج قاسم سليماني في آلية عسكرية مصراً على التوجه إلى الخطوط الأمامية على محور سد العظيم، حيث واجهت القوات عقدة دفاعية للعدو راوحت عندها. كعادته، أعطى توجيهاته مجبولة بشحنة عالية من المعنويات سرعان ما وجدت ترجمتها باندفاعة متجددة للقوات دفعت بها نحو عمق منطقة العدو. في طريق العودة، سلكت سيارة الدفع الرباعي، محمّلة بقياديَين من الحشد ومستشار لبناني من حزب الله، طريقاً عسكرية شقتها آليات سلاح الهندسة التابع للحشد لتجاوز العبوات المنتشرة في المنطقة بكثافة. على أطراف الطريق، كانت مجموعة من المقاتلين تأخذ استراحة محارب، بينهم شاب عشريني يرتدي كنزة خفيفة ويبدو عليه التأثر ببرودة الجو. ما إن اجتازت السيارة جوار المجموعة حتى طلب الحاج قاسم من المستشار الذي كان يقود السيارة التوقف فورا. وسط تفاجؤ الجميع، فتح باب السيارة ونزل سريعا متوجها نحو مجموعة المقاتلين. ارتبك مرافقو الحاج، وسارعوا إلى اللحاق به خشية عليه من العبوات. اقترب الجنرال مبتسماً من ذاك المقاتل، مدّ يده إلى جيب السترة التي كان يرتديها، أخرج منها بعض الأوراق، ثم خلعها ووضعها على كتفي المقاتل المذهول، تناول رأسه بيديه وطبع قبلة على جبينه ثم قفل عائدا إلى السيارة. فيما كان المرافقون يلملم بعضهم البعض الآخر، تقدم أحدهم نحو الشاب وسأله: هل تعرف من هو هذا الشخص؟ نفيٌ بريء عكسته سريعا ملامح الشاب، قبل أن يأتيه الجواب من السائل: هذا الحجي قاسم، هنيئا لك سترته. كابَرَ المرافقون على الدمع الذي اجتاح عيونهم، حاولوا قول شيء ما، لكن الحاج رمقهم بواحدة من نظراته الحاسمة أفهمهم بها بأن الموضوع انتهى ولا يرغب بالحديث عنه.
(أ ف ب )

تسعة أشهر قبل ذلك. الشوارع في مدينة بلد، منتصفَ حزيران 2014، كانت مشبعة برائحة الخوف. السواد الأعظم من أهالي المدينة الواقعة جنوب سامراء مشغولون بتحميل أمتعتهم على سياراتهم تمهيداً للرحيل. داعش أحاطت بالمدينة من معظم الإتجاهات، لكن ثمة منفذاً باتجاه بغداد كان لا يزال متاحاً. عبره سلكت قواتٌ مبعثرة من بقايا فصائل المقاومة إبان فترة الإحتلال طريقها نحو المدينة. المهمة: فتح الطريق إلى مدينة سامراء وفك الحصار عنها ومنع سقوط مقام الإمامين العسكريين. سوء التنظيم، حالة من الإرباك والكثير من الحساسيات المتبادلة بين الفصائل طبعت الأجواء. أيام قليلة ويأتي الحاج قاسم برفقة الحاج أبو مهدي المهندس. يدعو إلى اجتماع عاجل، يحضره مسؤولو القوات متذمرين من التعثر وقلة الإمكانات. نصف ساعة كانت كافية لـ«الحجي الكبير» لحل مشكلة التنظيم من خلال توزيع القوات على محاور تقدم محددة وإسناد مهام محددة لكل منها. رداّ على شكوى الإمكانات، قال بشكل حازم: إن لم تقاتلوا اليوم بهذه الإمكانات القليلة التي تشكون منها، فإنكم ستقاتلون غدا في منطقة خلفية بإمكانات أقل وبروح معنوية أسوأ، ولن تتمكنوا من تحقيق الإنجازات المطلوبة. جال بنظراته الواثقة في أوجه الحاضرين مردفاً بعربية ثقيلة: أنتم اليوم، بإمكاناتكم المتواضعة، لكن بروحيتكم الجهادية ومعنوياتكم المرتفعة وتلبيتكم المتوثبة سرعان ما ستكتشفون أن النصر حليفكم. بعضكم سينتصر بالشهادة، وإن شاء الله نكون نحن منهم، البعض الآخر سينتصر بفك الحصار عن سامراء.
في الغداة انطلقت القوات نحو مغامرتها، عديدها بالمئات، وعتادها أسلحة خفيفة في الغالب، وبعض الأسلحة المتوسطة، مشفوعة ببعض الهامرات ودبابتين من نوع أبرامز. قريباً من منطقة الإسحاقي، في منتصف الطريق إلى سامراء، تعرقل التقدم البطيء أصلاً، ثم ما لبث أن جمد إثر التعرض لرمايات من جهة العدو. عقد الحاج قاسم اجتماع عمليات ميداني، وتحدث مع الجمع باطمئنان استغربه الحاضرون الذين كانوا مأخوذين بالرعب الداعشي. قال لهم: هذه هي النقطة التي سينكسر فيها داعش؛ إذا ثبتم وحررتموها ستكون الطريق مفتوحة إلى سامراء. لم يُطل الكلام: «سنواصل التقدم»، ختم ثم صعد في سيارة دفع رباعي طالباً من السائق التحرك قدما. ليست الأوامر العسكرية، ولا الإنضباط التنظيمي كانا ما حركا القوات خلفه على تردد. وحده الخجل من شجاعته، والشعور بالذنب من احتمال تعرضه لمكروه، دفعا نحو خمس عشرة آلية للحاق به متقدماً غير آبه برمايات أصاب بعضها سيارته. في غضون دقائق، تجاوز الرتل المتقدم منطقة التماس، فإذا بالقوات المتبقية تنتابها الحماسة وتندفع خلف موكب الحاج وتلتحق به. مع الوصول إلى سامراء كان الرتل ممتداً كيلومترات على الطريق؛ ينظر الحاج قاسم إليه وسط سعادة غامرة اعترت الجميع بالإنتصار المتحقق ويعلق ممازحاً: ما شاء الله، كنا في البداية نتوسل القوات، والآن بفضل الله القوات كلها وراءنا.
في اجتماعات التخطيط للعمليات، إختار أن يكون دائما آخر المتكلمين. يعطي الكلام بالدور للحاضرين مستمعاً إلى وجهات نظرهم. يستمزجها، ثم يدلي برأيه حاسماً النقاش من دون الحاجة إلى ممارسة سطوة القيادة في إصدار الأمر. كان يكفي أن يحمل القلم بيده الجريحة ويرسم على الخريطة منطقة العمليات المفترضة ومحاور التقدم الأولية إليها كي يسلّم الجميع بالمهمة طواعية، نزولاً عند عشقهم للحاج، لا عند إمرته لهم. غالباً ما كانت الدوائر التي يحددها لمنطقة العمليات شاسعة المساحة، بما يفوق توقعات الحاضرين. درجت في أعقاب ذلك دعابة وسط بعض المستشارين الإيرانيين تدعو إلى أن تكون مقاييس خرائط التخطيط المقدمة إلى الحاج دون «الواحد على عشرة آلاف»، كي تصغر مساحة الدائرة التي يرسمها لمنطقة العمليات.
بيجي، تشرين أول 2015. عند مشارف نهاية العمليات التي أفضت إلى تحرير المدينة ومحطيها الأوسع، يكون الحاج قاسم في خلوة استراحة قصيرة في أحد مقرات العمليات. يتسلل مقاتل إلى مكان استراحته، يقف بالباب، ويومئ إليه على خجل بوجود ثلة من رفاقه يرغبون بالتقاط الصور معه. يبتسم الحاج: «در خدمتيم» (بخدمتكم) وينهض من فوره، يرتب ثيابه ويخرج إلى المجموعة التي تنتظر في الخارج على أمل. يتوسطهم وتبدأ حفلة التصوير التي، كما في كل مرة يجري ضبط الحاج فيها بحضور كاميرا، لا تنتهي. الجنرال الذي يملأ صيته المشرق والمغرب، كان بين المقاتلين كأحدهم، يتودد إليهم، يمازحهم، يقبلهم، يأنس بهم، ويفيض بطاقة استثنائية لإشباع رغباتهم التواقة إلى التقرب منه، تقبيله وضمه، التصور معه، أو اغتنام شيء من أثره، عادة ما يكون شالاً على كتفه، أو خاتماً في إصبعه. لم يكن شيئاً غير مألوف أن تجده يركب دراجة نارية وراء أحدهم متفقدا وضعية القوات أثناء العمليات، أو في سيارة بيك آب، التي كان يفضلها على سيارات الدفع الرباعي الفخمة ويهرب من طوابير مواكبها التي تحرص، لأغراض حمائية، على الإلتصاق بحركته.
البوكمال، تشرين الثاني 2017. يتنفس الحاج قاسم بصعوبة. النزلة الصدرية التي ألمت به تزداد سوءاً، وتُخمد همته المستديمة على الحضور في الميدان. يلتحف عباءة عربية ويحزم رأسه بلفحة عربية أيضاً، ويجلس وعلى محياه الإعياء في احدى غرف مقره، مصراً على مواكبة سير عمليات تحرير المدينة. يرفض نصيحة الجميع بالذهاب للعلاج والراحة. ما هي إلا أيام وتنتهي العمليات بتحرير المدينة. يدعو إلى اجتماع موسع. ربما كان أحد الإجتماعات النادرة التي ضمت معظم مكونات القوات المقاتلة في محور المقاومة: عراقيون، سوريون، لبنانيون، إيرانيون، أفغان وباكستانيون. بارك في كلمته للجميع الإنتصار على داعش وأثنى على التضحيات معلناً إنجاز المهمة التي «بدأتموها قبل ثلاث سنوات ونصف». ينصرف الجميع، ويبدأ الحاج بإعداد نفسه للرحيل. قبل أن يغادر المنزل، يخط بيده رسالة لصاحب الدار التي كان اتخذها مقرا لإقامته، يبلغه فيها أنه أهداه صلاة ركعتين ودعا له بحسن العاقبة، ويطلب فيها منه مسامحته على اضطراره إلى استخدام المنزل ويطلب منه أن يتواصل معه على رقم الهاتف المدون أسفل الرسالة للحصول على التعويض الذي يرتأيه لإبراء ذمته. توقيع الرسالة: إبنكم وأخوكم، سليماني.