التطور النوعي في العلاقات الصينية ــــ الإسرائيلية، على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي، بات مصدر قلق جدّي بالنسبة إلى الولايات المتحدة. مصادر القلق تتزايد من وجهة نظر الأخيرة، التي أعلن وزير دفاعها مارك إسبر، خلال مداخلته أمام الكونغرس يوم الأربعاء الماضي، أنه متخوف من بداية نموّ النفوذ الروسي في مصر وتركيا والسعودية. بناء حلفاء وازنين (وفي حالة إسرائيل، حلفاء وكلاء) للولايات المتحدة شراكات موازية، حتى ولو كانت في مراحلها الأولى، مع المنافسين الدوليين الصاعدين، يشكّل بذاته تحدّياً خطيراً، لأنه يكشف عن تراجع قدرة واشنطن على إلزام الحلفاء بأولويات استراتيجيتها العامة، والتي هي أحد مرتكزات هيمنتها الدولية. لكن الأنكى في حالة التعاون الصيني ــــ الإسرائيلي، وخاصة في الميدان التكنولوجي، هو ما قد ينجم عنه من تعزيز لقدرات الصين العسكرية، وبالتالي تهديد للولايات المتحدة وحلفائها. لقد أدى هذا التعاون إلى بروز أزمة ثقة غير معلنة بين واشنطن وتل أبيب نتج منها امتناع أميركي حتى الآن عن التعاون مع إسرائيل في بعض حقول التكنولوجيا، كالذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والمسيّرات مثلاً، والتي سيكون دورها مركزياً في حروب الغد. ولا شكّ في أن خلفيات النقاش الدائر في البلدين حول ضرورة إبرام معاهدة دفاع بينهما أو معاهدة تجارة دفاعية، ترتبط، من بين اعتبارات أخرى، بمسعى لحلّ هذه الأزمة.قلّما تماهت إدارة أميركية مع المواقف الإسرائيلية كما تفعل إدارة دونالد ترامب. لكن هذا التماهي، وما تمخّض عنه من دعم سياسي وعسكري أميركي لإسرائيل، لم يَحُل دون استمرار نمو العلاقات الصينية ــــ الإسرائيلية بشكل مطّرد في ميادين التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا المتطورة. استراتيجية الصين للحصول على التكنولوجيا تستند جزئياً إلى السعي للاندماج مع الشركات التي تنتجها أو شراء أصولها، وهو ما تحاول القيام به في إسرائيل، والولايات المتحدة تعي ذلك تماماً. يقول آرثر هيرمان، أحد كبار الباحثين في «معهد هادسون»، إن «البنتاغون متخوّف من استغلال القدرات في مجال الذكاء الاصطناعي، والتي حصلت عليها الصين عبر الاستثمار في شركات صناعية مدنية، لتطوير أجيال جديدة من الأسلحة التي قد تستخدم في المستقبل ضدّ الولايات المتحدة وحلفائها». ويعتبر هيرمان، في تقرير نشره حول هذا الموضوع على موقع «موزاييك» اليهودي الأميركي بعنوان «عقبات تعترض طريق العلاقات الأميركية ــــ الإسرائيلية وكيفية تجاوزها»، أن «ما ينقص بين واشنطن وتل أبيب هو ليس الاحترام المتبادل أو القيم والأهداف المشتركة، كاحتواء إيران وهزيمة الأصولية الإسلامية، أو التزام الولايات المتحدة بحماية وجود إسرائيل، بل مستوى أساسي من الثقة، وخاصة بالنسبة إلى ما يمكن لإسرائيل أن تفعله بالتكنولوجيا التي ستمتلكها نتيجة للتعاون الثنائي مع الولايات المتحدة».
ما تكشفه أزمة الثقة الأميركية ــ الإسرائيلية هو أن تسلّل منافسي واشنطن مستمرّ إلى مناطق نفوذها


تراكم السوابق الإسرائيلية هو من بين الأسباب الأهمّ للأزمة المذكورة. يُذكِّر هيرمان بداية بقضية العميل الإسرائيلي، جوناثان بولارد، الذي لا يزال معتقلاً في الولايات المتحدة، وما كشفت عنه من استعداد إسرائيل للتجسّس على الحليف الأقرب، وانتهاك جميع القوانين والأعراف للحصول على ما تريد. في تموز 2000، أجبرت الضغوط الأميركية إسرائيل على التراجع عن اتفاق موقّع مع الصين لبيعها نظام تعقّب جوي مخصص لطائرة الاستطلاع «فالكون». بعد 4 سنوات، وصل التوتر إلى ذروته بين الطرفين نتيجة لصفقة «هاربي» بين تل أبيب وبكين، وهي صفقة طائرات مسيّرة مجهّزة لكشف وتدمير رادارات العدو، وتستطيع التحليق إلى مدى 480 كلم. لم تعترض الولايات المتحدة مباشرة على الصفقة، غير أن اتفاقاً جديداً كانت ستقوم إسرائيل بموجبه بتزويد الطائرة بمكونات تكنولوجية متطورة، ما يشكل تهديداً للقوات الأميركية، دفع الولايات المتحدة إلى معاقبتها عبر تجميد مشاركتها يومها في مشروع إنتاج مقاتلة «f-35»، وهو ما دام بضعة أشهر، وفَرَض إقالة مدير وزارة الدفاع الإسرائيلية، الجنرال آموس يارون. الخلاصة التي توصّلت إليها القيادة العسكرية الأميركية هي أنه لا يمكن الوثوق بعدم قيام إسرائيل بالمتاجرة مع العدو. يضاف إلى ذلك، كما ذُكر سابقاً، أن الصين تعمل من جهتها لامتلاك التكنولوجيا المتطورة عبر الاندماج مع الشركات التي تنتجها أو شراء أصولها. جميع هذه الوقائع دفعت الطرف الأميركي إلى الامتناع عن التعاون في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والمسيّرات والحاسوب الكمّي (Quantum computer) والأنظمة المضادّة للصواريخ مع إسرائيل. ويشير هيرمان إلى أن المرة الأخيرة التي تعاونت فيها شركة «رايثيون» الأميركية مع شركة «رافاييل» لأنظمة الدفاع الإسرائيلية كانت في عهد إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، لإنتاج منظومتَي «القبة الحديدية» و«مقلاع داود». حاولت إسرائيل، لاحتواء آثار «أزمة هاربي» المشار إليها أعلاه، إصدار قانون لضبط عمليات بيع السلاح للخارج، وأنشأت وكالة حكومية لهذه الغاية أصبحت جزءاً من وزارة الدفاع، لكن تلك الإجراءات لم تُزِل الشكوك الأميركية.
وبما أن استعادة الثقة الأميركية الكاملة بها كحليف موثوق هي ضرورة استراتيجية حيوية، يعتقد البعض، كشارل فريليش، نائب مستشار الأمن القومي الأسبق في إسرائيل، أن على الأخيرة إبرام معاهدة دفاع مع الولايات المتحدة تساهم في حمايتها من التهديدات «الوجودية» التي تواجهها، وفي مقدّمها التهديد الإيراني، وتضبط العلاقة بين الحليفين ضمن قواعد لا تسمح بتجدّد أزمات الثقة. أما الجنرال عاموس جلعاد، فهو يجزم، في مقال نُشر في «يديعوت أحرونوت»، بأنه «عندما نجري الحساب، من الأفضل أن نحافظ على قدرة عمل الدولة في منطقة مركّبة مثل الشرق الأوسط أولاً، وقبل كلّ شيء حيال إيران، وتوجد أيضاً تحدّيات أخرى. الحل الصحيح هو توسيع التعاون الأمني المبهر بحدّ ذاته». هيرمان، من جهته، يظنّ أن الحل الذي لا يقيّد حرية حركة إسرائيل، ويحفظ لها هامش مناورة واسعاً على المستوى العملياتي، ولكنه يتيح ترميم الثقة مع الولايات المتحدة، هو التوقيع على معاهدة تجارة دفاعية بين الطرفين، شبيهة بالتي أبرمت بين الولايات المتحدة وكلّ من بريطانيا وأوستراليا. مثل هذه الاتفاقية ستُلزم إسرائيل بضوابط تحفظ المصالح الأمنية والاستراتيجية للولايات المتحدة عند قيام الأولى ببيع أسلحة لدول أخرى، ولكنها ستُمكّنها من التعاون مجدداً مع الأخيرة في ميدان البحث والتطوير التكنولوجي، والذي يمثل بالنسبة إليها ضرورة استراتيجية لا غنى عنها. ما تكشفه أزمة الثقة الأميركية ــــ الإسرائيلية، بمعزل عن كيفية تجاوزها، هو أن عملية تسلّل منافسي واشنطن الدوليين مستمرّة إلى قلب مناطق نفوذها، وباتجاه أقرب الحلفاء، وهذا الأمر مرشح للتزايد مع استعار التناقضات بينها وبين هؤلاء المنافسين.