لا حاجة لتذكير شعوب العالمَين العربي والإسلامي، ولا شعوب الغالبية العظمى من بلدان الجنوب، بسجل الولايات المتحدة الإجرامي، السابق والحالي، بحقهم. أكثريات وازنة ضمن هذه الشعوب مدركة لمسؤولية واشنطن المركزية عما آلت إليه أوضاع بلدانها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخاصة في مناطق الاشتباك المباشر معها، وعن الخراب العميم الذي تسبّبت به في دول كالعراق وليبيا وسوريا وغيرها من دول المنطقة. أنظمة وحكومات هذه البلدان تتحمل بدورها، وبدرجات متفاوتة، مسؤولية التردي الكبير في أحوالها، لكن ميل غالبية الليبراليين، وبعض اليساريين، إلى التعامي عن المسؤولية الأميركية الطاغية، البنيوية والظرفية، عنه، يحول دون الفهم الصحيح لأسبابه العميقة. وفي حالة إيران، البلد المستهدَف بسياسة «الضغوط القصوى» الهادفة علناً إلى إثارة الانقسامات الداخلية لإضعاف النظام ودفعه إلى الاستسلام للشروط الأميركية كما يريد «المعتدلون» في إدارة دونالد ترامب، أو التسبب بإسقاطه كما يتمنى متشددوها، يساوي مثل هذا التعامي مشاركة في تضليل الرأي العام، ومساهمة في الحرب الهجينة الأميركية على هذا البلد. ويتضح من مسارعة وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى الإعلان عن وقوف واشنطن «إلى جانب الشعب الإيراني»، ومن مواقف مسؤولين وخبراء أميركيين آخرين، أن الإدارة الأميركية ستسعى إلى استغلال الاضطرابات الاجتماعية والدخول مباشرة على خطّها لزعزعة استقرار إيران إلى أقصى حدّ ممكن، أي أننا أمام فصل جديد من الحرب عليها.
«حرب عصابات اجتماعية»
الأطراف التي ساهمت في بلورة سياسة «العقوبات القصوى»، انطلقت من فرضية مفادها أن نقطة ضعف إيران الرئيسية، حالها حال الأنظمة «الشمولية» السابقة في الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، هي هشاشة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية. ويردّ هؤلاء هذه الهشاشة إلى الإنفاق الباهظ على تطوير القدرات العسكرية، وعلى دعم الحلفاء في الإقليم، بدلاً من التركيز على التنمية الاقتصادية وعلى تلبية حاجات المواطنين الإيرانيين. لهذه الفرضية أنصار في الداخل الإيراني، كالذين رفعوا خلال الاحتجاجات التي تلت الانتخابات الرئاسية عام 2009 شعار «لا غزة ولا لبنان، أرواحنا فقط في سبيل إيران»، وعادوا وردّدوه خلال التظاهرات الجارية حالياً ضد قرار رفع سعر الوقود. المهم هو أن غاية «الضغوط القصوى» هي تأجيج التناقضات الداخلية نتيجة لخنق إيران اقتصادياً ومالياً، وتغذية قوى التمرد على النظام.
الحرب الاقتصادية في صدد التحوّل إلى الشكل الرئيسي للحرب التي تخوضها إدارة ترامب


تقرير صادر عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأميركي في الثامن من الشهر الحالي، أي قبل اندلاع التظاهرات المشار إليها، بعنوان «احتجاجات إيران وتهديد الاستقرار الداخلي»، للباحثَين سيث جون ودانيكا نيولي، يعتبر أن البلاد دخلت منذ أواخر سنة 2017 في مرحلة جديدة سِمَتها تصاعد الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية. ويزعم معدّا التقرير أن إيران شهدت في الفترة الممتدة بين كانون الثاني 2018 وتشرين الأول 2019 ما يقارب 4200 عملية احتجاج بأشكال مختلفة. ويريان، وهذا الأخطر، أن الاحتجاجات مرشحة للاستمرار: «الكثير من الأسباب التي أثارت الاحتجاجات في الماضي، كالاقتصاد والوضع السياسي والبيئة والمطالب الثقافية، لا تزال قائمة وغير مرشحة للزوال في المستقبل القريب. الظروف الاقتصادية شديدة الصعوبة بسبب العقوبات الاقتصادية وسوء الإدارة الحكومية. الناتج الإجمالي الحقيقي انخفض إلى -3.9% سنة 2018، ويُتوقع أن يصل إلى _6% سنة 2019. سعر صرف الريال تراجع من 32000 للدولار الواحد أيام الاتفاق النووي إلى 154000 في الأسواق غير الرسمية في 2019... نسبة البطالة العامة تصل إلى 12%، وبطالة الشباب إلى حوالى 25%... تضافر هذه العوامل مع العقوبات الأميركية سيخلق ظروفاً ملائمة للاحتجاجات في البلاد، حتى لو تمكنت الإجراءات القمعية للحكومة من منع تغيير النظام». الأهم في التقرير هو «الاقتراحات» التي يقدمها لكيفية مساعدة الولايات المتحدة المحتجين على «إيصال صوتهم»، عبر توفيرها برامج سيبرانية لهم تسمح بالنفاذ عبر ثُغَر نظام الحماية المعلوماتية الرسمي الإيراني، واستخدام القنوات الفضائية الغربية كـ«بي بي سي» و«صوت أميركا» التي تبثّ بالفارسية كوسائل دعاية وترويج لهم في الداخل الإيراني. يوصي التقرير أيضاً بدعم قنوات أسّسها إيرانيون مقيمون في الخارج كـ«مانوتو تي في» في لندن للغاية نفسها. يجزم معدّا التقرير بأن «استمرار الاحتجاجات في إيران ودول أخرى من المنطقة، كلبنان والعراق، ينبغي أن يشجع على أن يكون البعد الأيديولوجي رئيسياً في المواجهة بين إيران والولايات المتحدة. الحملات الإعلامية الأميركية ضد الاتحاد السوفياتي، والتي استندت إلى أدوات كإذاعة أوروبا الحرة وإذاعة الحرية وصوت أميركا، قامت بدور حاسم خلال الحرب الباردة. نقاط قوة الولايات المتحدة، أي دعمها للمبادئ الديموقراطية ولحرية السوق والصحافة، هي نفسها نقاط ضعف إيران».
وبمعزل عن تفاهة الخلاصات الأيديولوجية للتقرير، فإن اللافت هو رصده الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها إيران، وتوصيته بتأمين الدعم للقوى المشاركة فيها لتصبح نوعاً من «حرب العصابات الاجتماعية» التي تستنزف نظام الجمهورية الإسلامية في أنحاء مختلفة من البلاد على المدى المتوسط، وتتصاعد بالتزامن مع تشديد العقوبات الاقتصادية والمالية الأميركية. الحرب الاقتصادية في صدد التحول إلى الشكل الرئيسي للحرب التي تخوضها إدارة ترامب تجاه منافسيها وخصومها، وما يصحّ على إيران يصح أيضاً على فنزويلا وبوليفيا وحتى الصين. وما سيحدّد مآلاتها في كل حالة من هذه الحالات هو قدرة المستهدَفين على الصمود والاحتمال وتوجيه الضربات الموجعة بدورهم.