لندن | رغم أن الثوار اليساريين في كولومبيا ألقوا بسلاحهم وتحولوا إلى حزب سياسي يشارك ممثلون عنه في البرلمان، إلا أن اتفاق السلام الذي وقّعته السلطات معهم عام 2016 برعاية سفارة الولايات المتحدة تحوّل إلى ما يشبه مصيدة محكمة يتم عبرها تنفيذ مذبحة تستهدف بشكل ممنهج الثوار السابقين، والمثقفين، والكوادر القياديين للطبقات المسحوقة والأقليات من السكان الأصليين للبلاد، والكولومبيين ذوي الأصول الأفريقية.لا تزال الاشتباكات مستمرة بين قوة من الجيش الحكومي الكولومبي، الذي يحاصر منذ أكثر من أسبوع مجموعة من الثوار الشيوعيين الغاضبين في سواريز (جنوب ــ غرب) وصفتهم السلطات بأنهم كوادر منشقون عن «تنظيم القوات الثورية الكولومبية» (جيش الشعب المعروف بفارك). ويحتمي الثوار في مبنى تابع للمجلس المحلّي في البلدة، برفقة حوالى 500 من الرهائن المدنيين الذين لم يتمكنوا حتى من دفن القتلى منهم. وتأتي هذه الحادثة بعد أسبوع على اغتيال ثلاثة من أفراد قوة متطوعة مسلّحة بالعصي تتولّى حماية الأقلية من السكان الأصليين للبلاد، وإصابة سبعة آخرين من المدنيين.
وفيما تدّعي السلطات الكولومبية أنها ما زالت متمسكة باتفاق السلام، الذي وقّعته مع «فارك» في عام 2016، بعد عقود من القتال تسبّبت في مقتل ما لا يقل عن 250 ألفاً غالبيتهم من المدنيين العزّل، وتهجير ملايين آخرين من أماكن سكناهم الأصلية، فإن المراقبين يتحدثون عن سياسات تصفية ممنهجة، تقف وراءها شخصيات متطرّفة في «حزب المركز الديموقراطي» الحاكم ــ أقصى اليمين ــ وفي الجيش الذي يُدار منذ عقود بمعرفة الاستخبارات المركزية الأميركية، تستهدف تحديداً نخبة المقاتلين السابقين ومثقفين وكوادر قياديين ونقابيين للعمّال والفلاحين والأقليات العرقية من بقايا السكان الأصليين للبلاد والكولومبيين من أصول أفريقية، ولم توفر حتى أعضاء في البرلمان. وقد قتل، بالفعل، 97 من رموز أقلية السكان الأصليين وحدهم خلال العام الحالي، ليصل مجموع المستهدفين بآلة القتل إلى 159 شخصاً، منذ توقيع اتفاق السلام المزعوم قبل ثلاثة أعوام، وذلك رغم أنهم رفضوا دائماً الانخراط في أيّ أعمال عنف ضدّ النظام، وردّوا عروضاً لمدّهم بالأسلحة من قبل الثوار اليساريين. وتشير منظمات حقوق الإنسان إلى مقتل 700 من المعارضين، منذ عام 2016، منهم 150 على الأقل من ثوار «فارك» السابقين وقياداتهم التي انخرطت في الجهود الحكومية المعنية بتنفيذ الاتفاق، الذي بموجبه هم تحت الحماية المباشرة للجيش الحكومي.
وتلقي الحكومة باللائمة في أعمال التصفية على صراعات وخلافات فردية الطابع، تقول إنها تندلع بين مجموعات الثوار أنفسهم، لا سيما تلك التي رفضت الالتحاق باتفاق السلام (جيش التحرير الوطني)، كما تتهم حكومة فنزويلا المجاورة بدعمها. لكن لا أحد في كولومبيا أو في العالم يصدّق ادعاءات النظام الحاكم الذي يمتلك واحداً من أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان في التاريخ الحديث. ولعل حادثة مقتل الثائر والقيادي السابق في «فارك» ديمار توريس، في نيسان / إبريل الماضي، جاءت بمثابة إدانة صريحة لتورّط الجيش الكولومبي بنفسه في التصفيات الممنهجة. وكان توريس ــ الذي ألقى بسلاحه بعد الاتفاق ــ تحت حماية الجيش الحكومي المباشرة لحظة مقتله. وقد أعلنت الحكومة، وقتها، أنه قتل على أيدي ثوار معارضين لاتفاق السلام، قبل أن تضطر إلى الاعتذار علناً عن تورّط عناصر من الجيش في قتله إثر تسرّب مقطع فيديو صوّر على هاتف نقّال لعملية الاغتيال التي نفذت برصاصة في الرأس من قبل حراسه أنفسهم.
تنفّذ ميليشيات يمينية إعدامات وملاحقات تستهدف الناشطين اليساريين


ويبدو الرئيس الحالي إيفان دوكي ماركيز، الذي تولّى السلطة في عام 2017، مجرّد واجهة تردّد بروباغاندا الأجهزة الأمنية التي يسيطر عليها بالكامل عناصر يمينيون متطرّفون وثيقو الصلة بواشنطن، ذلك أنه يكتفي بإلقاء وعود بالعدالة وحماية حقوق الإنسان، لا تتحقق. ومن المعروف أن رجل كولومبيا القوي، هو قائد الجيش الميجور جنرال مارتينيز إسبينال، بينما يتزايد باطراد تأثير الرئيس الأسبق ألفارو أوريبي ــ أقصى اليمين الذي حكم البلاد بالحديد والنار بين عام 2002 و2010 ــ في أوساط النخبة السياسية البورجوازية المهيمنة في البلاد. وكان الأخيران شريكين كاملين في جرائم قتل واسعة النطاق، نفّذها الجيش خارج القانون طوال عقد، بما فيها عملية «الإيجابية الكاذبة» الذائعة الصيت، والتي قُتل فيها آلاف الشبان الفقراء، واستُخدمت جثثهم بعد تمويهها بثياب الثوار، للدلالة أمام السفارة الأميركية على نجاعة عمليات الجيش الحكومي ضد «فارك». حينها، استُدعي أولئك الشبان إلى معسكرات خاصة للالتحاق بعروض عمل حكومي كاذبة، وقد تأكد أن الجنود الذين نفذوا عمليات التصفية حصلوا على مكافآت مالية، وحوافز رسمية مقابل جهودهم في العملية.
وقد أثار تحقيق كتبه الصحافي الأميركي نيكولاس كيسي، ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في شهر أيار / مايو الماضي، الخشية من أن «الإيجابية الكاذبة» ما زالت نظاماً معتمداً في العمليات العسكرية الحكومية، بشكل أو بآخر، بعدما كشف عن أن قيادة الجيش وجّهت تعليمات للوحدات الفاعلة، بمضاعفة كوتات أعمال القتل الشهرية ضد المعارضين، ومن ثم تمويه جثثهم بملابس الثوار المعارضين لاتفاق السلام. وقد طُرد كيسي من بوغوتا، بعد نشر التحقيق، ولم تتدخل سفارة بلاده لصالحه، بينما سارع الرئيس دوكي ماركيز ــ كعادته ــ إلى الوعد بالتدقيق في ممارسات الجيش، مع اعتباره ما جرى مجرد سلوك معزول من أفراد محدودين.
ولا تقتصر الحرب المستمرة على فقراء كولومبيا، على مساهمات الجيش الفاعلة، إذ إن هناك ميليشيات يمينية سيئة السمعة تديرها الاستخبارات المركزية الأميركية، وتطلق على نفسها اسم «النسور السوداء»، تنفّذ إعدامات وملاحقات تستهدف الناشطين اليساريين، مدنيين وثواراً، إضافة إلى قوات مرتزقة يموّلها كبار ملّاكي الأراضي والشركات المتعددة الجنسية، وتمارس عنفاً متطرّفاً ضد أي احتجاجات ضد الاستغلال ونهب موارد البلاد. هذا فضلاً عن عملاء كارتيل المخدرات المكسيكي الشهير، «سينولا»، والذي يتولى توريد كميات الكوكايين الضخمة من مزارعه في كولومبيا، والمخصصة للترويج بين صفوف الأقلية الأفرو ــ أميركية السوداء في الولايات المتحدة، فضلاً عن المجرمين والمافيات المحلية في المناطق التي سلّمتها قوات «فارك» للحكومة، وأصبحت جزر فراغ أمني في كل مناطق جنوب البلاد الوعرة، والمهملة اقتصادياً وخدماتياً.
ويتعرّض الفلاحون ومالكو قطع الأراضي الصغيرة في تلك المناطق لضغوط اقتصادية غير مسبوقة، بعدما قبلوا ــ وفق اتفاق 2016 ــ بالتوقّف عن زراعة نبتة الكوكا التي يستخلص منها الكوكايين، والانتقال إلى زراعة محاصيل تجارية أخرى مقابل الحصول على دعم حكومي يعوّضهم جزئياً عن الفرق. لكن ممثلي الحكومة ــ الذين ظهروا فور توقيع اتفاق السلام أمام كاميرات الصحافة وهم يتسلمون طلبات الدعم تلك من الفلاحين ــ اختفوا تماماً، ولم يُسمع عنهم شيء منذ ذلك الحين، بينما يتعرّض من يجرؤ على العودة إلى زراعة الكوكا لانتقام عملاء «سينولا»، الذين أبلغوا الجميع أنهم لا يريدون منافسين لهم في سوق زراعة المخدرات.
وهكذا يتبخّر سراب اتفاق سلام 2016 بين الحكومة وخصومها، والذي رعته السفارة الأميركية، في إعادة هزلية لاتفاق السلام السابق الذي وقّعه النظام الكولومبي مع ثوار حزب الاتحاد الوطني اليساري في الثمانينيات من القرن الماضي، وانتهى بحملة تصفية ممنهجة حصدت أرواح آلاف الثوار المستسلمين، أعادت بلاد غابرييل غارسيا ماركيز إلى مرحلة المئة سنة الأخيرة من العزلة والموت وانتهاكات حقوق الإنسان التي أدمنتها كولومبيا، ولا يريد لها الأميركيون شفاءً منها.