لم يكن تناول رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، أخيراً، في كلمة له أمام متخرّجي كلية الأمن القومي، الدور الذي أدّاه الجيش في ازدهار اقتصاد الكيان الإسرائيلي طوال تاريخه، نابعاً من فراغ. إذ على الرغم من أن هناك الكثير من التحدّيات الإقليمية والاستراتيجية في الطوق المباشر والبعيد للكيان، التي كان يمكن أن تشكل محور كلمة كوخافي كما حصل في العديد من المحطات السابقة، إلا أنه اختار الحديث عن دور الجيش في بعدَيه الاجتماعي والاقتصادي، لتعكس كلمته تأثيرات الواقع الاقتصادي في الكيان على المؤسسة العسكرية، وحجم التحديات الداخلية التي تواجه المستويين السياسي والأمني في تل أبيب. قال كوخافي إن الجيش ساعد منذ إقامته في مسارات النمو والازدهار، وأسهم في الاقتصاد إسهاماً مباشراً وغير مباشر. ولفت إلى أنه «لا نهاية للأبحاث التي تثبت العلاقة الواضحة: كلما ارتفع مستوى الأمن، وكلما تراجع مستوى الخطر واللايقين، ازدادت القدرات وفرص الاستثمار، وارتفع النمو»، مضيفاً أن الجيش هو أحد محركات النمو المركزي في إسرائيل.بلور كوخافي، في الأشهر الأخيرة، خطة تمتدّ على سنوات باسم «تنوفاه/ زخم»، تشكل امتداداً للخطة السابقة التي بلورها رئيس الأركان السابق، غادي أيزنكوت، باسم «غدعون». تستهدف الخطة الجديدة ملاءمة الوسائل التي بحوزة الجيش للتهديدات الاستراتيجية التي تعاظمت بالقياس إلى المرحلة الماضية، وبما يتناسب مع توجيهات المستوى السياسي. بتعبير آخر، تسعى إلى تحسين الفعالية العملياتية، حتى تلبّي متطلبات مواجهة المخاطر المحيطة بإسرائيل (على رأسها إيران وحلفاؤها على جبهات مختلفة)، التي تعززت مقارنةً بما كانت عليه خلال فترة أيزنكوت.
المستجدّ الأكثر أهمية وحضوراً لدى القيادة العسكرية يتصل بمآلات المواجهة بين إيران والولايات المتحدة. ثمة تخوف في تل أبيب من أن تكون لهذه المواجهة آثارها على إسرائيل في أكثر من مجال. إذ يمكن أن تدفع ايران إلى تسريع برنامجها النووي، وقد تورّط إسرائيل في الصراع إلى جانب الأميركيين. تحدٍّ تضاف إليه التطورات التي شهدتها جبهتا سوريا ولبنان في أعقاب انتصار الدولة السورية برئاسة الرئيس بشار الأسد، وهو ما يفرض على إسرائيل الاستعداد لمفاعيلها. أيضاً، تقرّ تل أبيب بأنّ حزب الله نجح في امتلاك قدرات صاروخية دقيقة، على الرغم من كل مساعيها إلى إحباط ذلك، فضلاً عن استمرار المواجهة مع قطاع غزة، والكلفة المتراكمة لـ«المعركة بين الحروب» على الجبهات المختلفة.
في المقابل، يواجه الجيش، ومن ورائه المؤسسة السياسية، تحدّي ارتفاع العجز، وهو ما دفع الحكومة إلى تقليص النفقات في موازنة عام 2019. لكن يبدو أن هذه الخطوة لم تكن كافية، إذ ما زالت الضغوط الاقتصادية الدافعة في اتجاه كبح الموازنة في حالة تصاعد. تُضاف إلى ذلك الظروف السياسية الداخلية التي تعرقل تشكيل حكومة مستقرة جديدة، تصدّق على خطة الجيش المتعددة السنوات، بما فيها الموافقة على الموازنة المطلوبة لتنفيذها. كل تلك العوامل تلقي بثقلها على الموازنة المفترضة لتنفيذ رؤية كوخافي. وفيما تعلو من داخل وزارة المالية الأصوات المطالبة بمزيد من التقليص في النفقات، واتخاذ إجراءات محدّدة داخل المؤسسة العسكرية تُسهم في توفير المزيد من الأموال، تطالب أصوات أخرى بدعم التصديق على الخطة، انطلاقاً من أنّ الوضع الاقتصادي هو الأفضل نسبياً في السنوات الأخيرة، وهذا ما يتبنّاه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ومعه كل الداعين إلى توفير متطلبات الجيش لمواجهة التحديات القائمة والقادمة. لكن «معهد أبحاث الأمن القومي» يرى أن القيد الاقتصادي، والوضع السياسي الداخلي، سيُسهمان في عرقلة إطلاق خطة كوخافي، بل وقضم محتواها، مع أنّ أحداً لا يشكك في أهميتها بهذه المرحلة.
في خضمّ ذلك، يبدو واضحاً أن اختيار كوخافي الحديث عن دور الجيش في الازدهار الاقتصادي لإسرائيل، في هذا التوقيت بالذات، يندرج في إطار المساعي الهادفة إلى تهيئة الرأي العام لتقبّل المزيد من التقشف في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، في مقابل المزيد من النفقات في مجال بناء القدرات وتطويرها بهدف الارتقاء بها إلى مستوى مواجهة التهديدات المتصاعدة، واحتمال حصول تطورات دراماتيكية في المنطقة. ومع أن الاقتصاد الاسرائيلي حقق قفزات هائلة خلال العقود السابقة، وبإمكانه تحمّل رفع نسبة الموازنة الأمنية من الناتج المحلي، إلا أن تراجع النمو، وارتفاع نسبة العجز في الوقت الذي يرتفع فيه مستوى المخاطر الإقليمية، وانعكاس ذلك على خطط بناء القوة وتطويرها لمواجهة الاستحقاقات المرتقبة، يضيّق الخيارات أمام الجيش والسلطة السياسية والجمهور الإسرائيلي.