الأداء السياسي لأردوغان هو ما يفسّر هزيمة إسطنبول أردوغان رمز لتحالف قومي «أوراسي» التوجّه
تضافر تداعيات قد يقود إلى انتخابات مبكرة في 2020


كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد اعتبر في أحد تصريحاته الشهيرة قبل انتخابات بلدية إسطنبول أن من يفوز بها «يفوز بتركيا بأكملها». بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها حزبه في هذه الانتخابات في مواجهة مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، وما حملته من معانٍ سياسية ورمزية، كثرت التساؤلات عن تداعياتها المحتملة على مستقبل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، الذي حوّل تركيا إلى لاعب بارز في الإقليم، بمعزل عن تقييم دورها. جنكيز تشاندار، رأى في مقابلة مع «الأخبار» أن تضافر الديناميات السياسية التي أطلقها انتصار المعارضة في الانتخابات مع الضغوط الخارجية، الاقتصادية أساساً، الناجمة عن خيارات أردوغان الجيوستراتيجية، قد تفضي إلى انتخابات مبكرة غير مضمونة النتائج بالنسبة إلى أردوغان. وتشاندار من أبرز الخبراء الأتراك في شؤون الشرق الأوسط، وصحافي كان مستشاراً للرئيس التركي الأسبق طورغوت أوزال، وتربطه صداقات وثيقة مع عدد من القادة السياسيين في المنطقة، كالرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، والشهيد خليل الوزير، والرئيس العراقي الراحل جلال طلباني، ورئيس وزراء العراق الحالي عادل عبد المهدي. ولتشاندار مؤلفات عدة، بينها «قطار ما بين النهرين السريع»، وعدد كبير من الدراسات والمقالات.

عن نتائج الانتخابات وتداعياتها، يقول جنكيز تشاندار: «عندما قرّر رجب طيب أردوغان إعادة تنظيم الانتخابات في إسطنبول، أشرت يومها إلى أن نتائج الانتخابات الجديدة ستحمل معاني أكبر وأهم من تلك التي ألغيت. كان من الممكن أن يقبل أردوغان بنتائجها، وأن يمارس بعدها ضغوطاً متنوعة، إدارية واقتصادية ومالية، على رئيس البلدية الفائز، ويسبب له مشكلات معقدة تسمح له بمخاطبة الرأي العام في المدينة، انطلاقاً من منطق سبق أن حذرناكم من مغبة التصويت له. وكان الفارق البسيط في الأصوات (نحو 13 ألفاً) يتيح له إثارة الشكوك حول حقيقة ما جرى. لكن قراره إعادة الانتخاب حوّل المسألة إلى نوع من الاستفتاء على كيفية إدارته للشأن السياسي. الأدوات التي استخدمها أيضاً كانت لها تداعيات شديدة السلبية. ففي الأسابيع الأخيرة على سبيل المثال، وتحديداً يوم عيد الفطر، بدأت أجهزة الدعاية في حزب العدالة والتنمية الإشارة إلى الأصول البيزنطية لإمام أوغلو، لكونه يتحدّر من محافظة طرابزون في الشمال التركي على ضفاف البحر الأسود. والحقيقة أن جميع سكان هذه المحافظة هم من أصول بيزنطية، لكنهم اعتنقوا الإسلام وتترّكوا مع مرور الزمن. ليس هذا الأمر سرّاً في تركيا، ولم يسبق أن لُجئ إلى مثل هذه الأساليب في الحياة السياسية والحملات الانتخابية في البلاد. إمام أوغلو استُقبل بتظاهرات تأييد، وهو كان في طريقه إلى المطار عائداً إلى إسطنبول، في مجموعة من مدن الساحل الشرقي للبحر الأسود التي كانت معاقل لحزب العدالة والتنمية. اعتبر السكان في هذه المنطقة أن التذكير بأصولهم قد يكون تمهيداً لاعتماد سياسات تمييز بحقهم شبيهة بتلك المعتمدة حالياً تجاه الأكراد. لقد كانت هذه الخطوة بمنتهى الغباء من قِبَل أردوغان الذي يتحدّر بدوره من بلدة تبعد أربعين كلم عن المحافظة، أي إنه من المنطقة نفسها. الخطأ الثاني الذي ارتكبه الرئيس التركي شخصياً، تشبيه إمام أوغلو بالسيسي بعد وفاة محمد مرسي. ما علاقة السيسي بالمعارضة التركية؟ ومن ثم عاد للقول إن انتصار مرشح المعارضة سيشكل انتقاماً بيزنطياً من السلطان محمد الفاتح. الخطأ الثالث إبراز رسالة من عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني، يدعو فيها الأكراد، وهم 3 ملايين في إسطنبول من أصل 15 مليوناً من السكان، إلى الحياد في المعركة الانتخابية الدائرة. هناك آلاف الأشخاص في السجون التركية بتهمة التعامل مع هذا الحزب، ولا يتورع العدالة والتنمية عن محاولة توظيف رسالة من أوجلان لمصلحته الانتخابية. هذه الأخطاء من بين الأسباب المهمة التي دفعت الناخبين إلى التصويت ضد أردوغان».
يعي ترامب ضعف أردوغان، ومن المستبعد أن يلبي طلباته


لكن الفارق الهائل في عدد الأصوات يؤشر على انقلاب شرائح واسعة من الرأي العام على العدالة والتنمية. يرى تشاندار أنّ «كتلة من خلفيات فكرية وسياسية متنوعة، تضمّ قطاعاً من الجمهور المحافظ والمتدين، صوّتت لغير مصلحة أردوغان. هذا يعني أننا لسنا أمام تحول أيديولوجي، بل سياسي ستكون له مفاعيل على المستوى الوطني العام. أحد هذه المفاعيل هي المعلومات التي ترشح عن قرب إعلان علي بابا جان تشكيل حزب سياسي سيكون عبد الله غول مرشده الروحي. معلومات أخرى أفادت بأن أحمد داوود أوغلو، من جهته، أيضاً بصدد إنشاء حزب سياسي. وبحسب البعض، فإن إمام أوغلو يهيّئ نفسه لدور سياسي على المستوى الوطني، إذ أعلن في الخطاب الذي تلا انتخابه أن التغيير قد بدأ، وأبدى أيضاً استعداده للتعاون مع أردوغان متوجهاً إليه كنِدّ. من المحتمل أن تفضي الديناميات التي انطلقت في الفترة الأخيرة إلى انتخابات مبكرة في 2020، برلمانية أو رئاسية، فإذا حصلت انشقاقات في العدالة والتنمية ستتغير موازين القوى في البرلمان وعلى المستوى السياسي العام. عوامل إضافية قد تساعد على مثل هذا التغير. فإصرار أردوغان على إتمام صفقة S 400 الروسية سيفضي إلى فرض عقوبات أميركية على تركيا، عملاً بقانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات، الذي أقرّه مجلس الشيوخ الأميركي ووقّع عليه الرئيس ترامب. يضمّ نص هذا القانون 12 بنداً يستطيع الرئيس الأميركي اختيار 5 منها لتُطبّق إن لم يرغب في فرض تطبيق جميع البنود. أردوغان مدرك تماماً لهذه الحقيقة، وهو يراهن على قدرته على إقناع ترامب بعدم القيام بذلك خلال اللقاء الذي سيجمعهما على هامش قمة الدول العشرين أواخر هذا الشهر في مدينة أوساكا في اليابان. هو يعلم بالطبع أنه سيبدو ضعيفاً أمام ترامب بعد هزيمته الانتخابية. الأمر نفسه ينطبق على علاقته ببوتين. لقد سعى أردوغان باستمرار إلى المناورة بين الطرفين الروسي والأميركي، والاعتماد على الأول في تجاذباته مع الثاني، والتلويح بإمكانية المزيد من التقارب معه إن لم يُستجَب للمطالب التركية المتعلقة بالأكراد أساساً. اليوم، يعي ترامب ضعف أردوغان، ومن المستبعد أن يلبي طلباته، وسيؤدي فرض عقوبات على تركيا على خلفية صفقة S400 إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا. تضافر هذه المعطيات، أي التغيرات السياسية الداخلية إثر الهزيمة الانتخابية للعدالة والتنمية والأزمة الاقتصادية، يزيد من احتمال انتخابات مبكرة في تركيا في 2020».

لسنا أمام تحوّل أيديولوجي، بل سياسي، ستكون له مفاعيل على المستوى الوطني العام (أ ف ب )

لكن الخلافات ليست بين أردوغان وحده والأميركيين. هناك تيار داخل الدولة والجيش التركيين يدفع باتجاه الابتعاد التدريجي عن حلف «الناتو» والانزياح نحو الكتلة الأوراسية: «كنت بين أول من قدموا هذا التحليل حول وجود ائتلاف من القوى العاملة على تغيير السياسة الخارجية التركية داخل النخبة العسكرية والسياسية. لقد كان للمجموعة التي سمّيتها أوراسية في الجيش دور رئيس في إجهاض المحاولة الانقلابية التي وقعت عام 2016، وفي ضرب العناصر ذوي الميول الأطلسية في الجيش وتصفيتهم، والمشاركة في عمليات التطهير التي استهدفتهم. التيار المسيطر على الجيش حالياً يرى نفسه امتداداً لحركة الاتحاد والترقي القومية التركية. لقد أنهيت للتو كتاباً عن أحداث 2016، واتضحت لي خلال أبحاثي المساهمة الرئيسة لألكسندر دوغين، منظّر الأوراسية في روسيا، وللاستخبارات العسكرية الروسية في إفشال المحاولة الانقلابية. المثير للانتباه، تاريخ وقوع هذه المحاولة الذي لا يزال الكثير من الغموض يشوبه. تذكرون أن الروس مارسوا ضغوطاً كثيرة للحصول على اعتذار علني من أردوغان بعد إسقاط الطائرة الروسية من قِبَل تركيا في تشرين الثاني من عام 2015. قدّم أردوغان هذا الاعتذار آخر شهر حزيران 2016، وجرت محاولة الانقلاب بعد 15 يوماً، مع ما تلاها من تطهير للجيش من الضباط الموالين للناتو. ومن ثم في شهر آب، عندما كان الجيش في حالة فوضى واضطراب بسبب عمليات التطهير والاعتقال في صفوفه، ولجوء العديد من ضباطه إلى دول الناتو، كألمانيا وايطاليا وبلجيكا والنروج، قرّر أردوغان شنّ عملية عسكرية امتدت من جرابلس إلى الباب ودامت أشهراً عدة. كانت المرة الأولى، بعد قبرص عام 1974، التي تتدخل فيها القوات التركية عسكرياً في منطقة وتبقى فيها، وهي لا تزال موجودة حتى اليوم. جرت العملية في منطقة تسيطر روسيا على أجوائها وبموافقتها بالطبع. لقد سرّعت الأحداث التي وقعت في تلك الفترة مساراً أصبح خلاله أردوغان رمزاً قوياً للدولة العميقة وناطقاً رسمياً باسمها. نحن أمام تحالف بين تيارات قومية، بعضها قومي ـــ إسلامي وبعضها الآخر قومي ـــ علماني أو قومي ــــ عرقي، على غرار حزب الحركة القومية المتغلغل بقوة داخل جهازي الأمن والقضاء. العدو المشترك لهذه التيارات القومية الثلاثة هم الأكراد. الغرب بقيادة الولايات المتحدة يدعم الأكراد، ما يمثّل تهديداً للأمن القومي التركي بنظر هذه التيارات. وهي تتوافق على ضرورة التقارب مع روسيا والصين وإيران لمواجهة ما تعتبره مؤامرة على تركيا».