ردود الفعل الأميركية الرسمية الغاضبة من إعلان روسيا إرسال طائرتَي شحن عسكريتين إلى فنزويلا، لا تدع مجالاً للشك في المغزى السياسي والرمزي لهذه الخطوة. روسيا تعلن لِمَن يهمه الأمر أنها ستقف في صف فنزويلا في مواجهة الحرب الهجينة التي تُشنّ عليها. تستند هذه الأخيرة إلى نموذج الحرب المنخفضة التوتر التي خاضتها الولايات المتحدة ضد نيكاراغوا أيام حكم الجبهة الساندينية في ثمانينيات القرن الماضي، والتي أدت بعد نحو عشر سنوات، واستنزاف البلاد بشرياً ومادياً، إلى سقوط الجبهة في الانتخابات عام 1990. ولا شك في أن افتقاد نيكاراغوا الدعم الدولي، مع دخول حليفها السوفياتي آنذاك في مرحلة الموت السريري، قد سرّع الانتصار الأميركي.قد تكون نقطة الضعف الرئيسية في استلهام مثل هذه الاستراتيجية اليوم هي تغير الظرف الدولي، وعودة روسيا إلى أداء دور بارز في أكثر من منطقة من العالم. نقطة أخرى مرتبطة بالأولى، هي أن هذه العودة تجري بالتحالف مع لاعبين إقليميين ودوليين وازنين، تتقاطع أهدافهم مع أهدافها. هذا ما حصل في سوريا، حيث شهدنا شراكة روسية مع أطراف محور المقاومة في مواجهة العدوان الذي تتعرض له. وهذا ما قد نشهده في فنزويلا، حيث تتقاطع المصالح الروسية والصينية في منع مسعى واشنطن لقلب نظامها الوطني. اختلفت الظروف جذرياً عن تلك السائدة في الثمانينيات، عندما لم يكن للاتحاد السوفياتي هذا النوع من الشراكات، إن لم نقل التحالفات، بل كانت علاقاته عدائية مع الصين وشديدة البرودة مع إيران. لقد بات من المؤكد اليوم أن البعد الدولي في الأزمة الفنزويلية ازداد أهمية، وأن مآلاتها المحتملة باتت وثيقة الصلة بمواقف أطراف هذا التدويل وسياساتهم.

التدويل وتداعياته الممكنة
دخلت موسكو، من الباب العريض، إلى ما لم تتوقف واشنطن يوماً، في ظلّ إداراتها المتعاقبة، عن اعتباره حديقتها الخلفية. هذا التصور لأميركا الوسطى والجنوبية بقي مهيمناً في أوساط النخب السياسية والعسكرية الأميركية، مع أن قسماً كبيراً من بلدانها قد شهد تغييرات فعلية بعد وصول حكومات وطنية إلى السلطة من طريق صناديق الاقتراع. ففي البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وبوليفيا والإكوادور والأوروغواي، اعتمدت التيارات اليسارية الوطنية التي انتصرت بالانتخاب سياسات مستقلة خاضعة لمصالحها الوطنية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي الداخليين، وعلى المستوى الخارجي، مناقضة بدرجات متفاوتة إملاءات واشنطن. ولا شك في أن من بين أبرز العوامل التي جعلت هذا الأمر ممكناً، غرق الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وحروبه، ما فتح نافذة فرص حقيقية أمام القوى الوطنية في البلدان المذكورة لمحاولة إنجاز التغيير المنشود منذ عقود من قِبَل شعوبها. ومما زاد من حنق الولايات المتحدة حيالها، شروعها في بناء شراكات اقتصادية وسياسية مع منافسيها الدوليين الصاعدين، وفي مقدمتهم الصين وروسيا، وهو ما تنظر إليه على أنه تحدٍّ استراتيجي في إحدى أكثر مناطق نفوذها أهمية.
الهجوم المضاد الأميركي على الحكومات الوطنية في دول وسط القارة الأميركية وجنوبها، بدأ منذ عهد إدارة باراك أوباما، إلا أنه انتقل إلى طور جديد مع إدارة ترامب، التي ترى أن استعادة السيطرة عليها أولوية استراتيجية. ولا يمكن فهم الحرب الحالية على فنزويلا خارج هذا السياق.
تعتبر واشنطن التموضع الروسي استمراراً للتصدي لمساعي تغيير الأنظمة

كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع إرسال روسيا قوات عسكرية، محدودة العدد حتى اللحظة، إلى فنزويلا؟ موقع «ستراتفور» الوثيق الصلة بالدوائر الأمنية والعسكرية الأميركية، يشير إلى أن «الولايات المتحدة تقيّم النتائج الطويلة الأمد لبناء روسيا موطئ قدم في الحوض الكاريبي، لأن ذلك يقوّض أحد المرتكزات الرئيسية لعقيدة مونرو، ويجعل من الصعب على واشنطن أن تمنع قوى خارجية من التدخل في مجالها الجيوسياسي الحيوي. حتى اللحظة، ردع التهديد بالتدخل الأميركي حكومة فنزويلا عن قمع الاحتجاجات الداخلية. هي ما زالت مترددة في اعتقال خوان غايدو أو نفيه، لخشيتها من أن يشكل الأمر دافعاً لتدخل أميركي محتمل. لكن في حال بدء مادورو بقمع المعارضة السياسية، لاعتقاده أن وجود قوات روسية يزيل احتمال التدخل الأميركي، سيقود مثل هذا التطور إلى وصول الأزمة الفنزويلية إلى مفترق طرق مفتوح على احتمالين: الاحتمال الأول، أن تحفز بداية الانتشار الروسي، المعارضين، على التحرك بسرعة قصوى ضد الحكومة، أي أن تحاول العناصر المعادية لها داخل الجيش الفنزويلي إطاحتها عبر انقلاب عسكري، قبل أن يحول وجود روسي متعاظم دون ذلك. والاحتمال الثاني، أن يؤدي القمع المتزايد من قِبَل الحكومة، المستند إلى الوجود الروسي، إلى حسم الضباط المترددين في الجيش الفنزويلي أمرهم، والانضمام من جديد إلى معسكر مادورو، ما سيحوّل الانقلاب إلى خيار مستحيل. في جميع الأحوال، إن إمكانية تزايد الوجود الروسي على ضفاف الكاريبي تعيد صياغة المشهد في فنزويلا».
يكشف هذا التحليل حقيقتين بالنسبة إلى الصراع الدائر في فنزويلا: الحقيقة الأولى، أن رهان واشنطن الفعلي هو قيام الجيش بالانقلاب على الرئيس الشرعي للبلاد. إذ إن التحركات الاحتجاجية التي باشرتها المعارضة، والحرب الهجينة التي تتعرض لها كراكاس، هدفها تأجيج الانقسامات الداخلية في المجتمع، واستنزاف البلاد لتشجيع عناصر عسكريين غير محسومي الولاء على إطاحة نظامها الوطني. والحقيقة الثانية، أن الإدارة الأميركية تنظر إلى بداية التموضع الروسي على أنه استمرار لسياسة التصدي لمساعي تغيير الأنظمة، التي أسهمت موسكو في إفشالها في سوريا، وتعمل اليوم على الحؤول دونها في فنزويلا. وإذا وقفت الصين بوضوح مع روسيا في فنزويلا، وهي لديها استثمارات بنحو 70 مليار دولار في هذا البلد، فسيزيد ذلك من صعوبة تحقيق واشنطن غاياتها هناك.