أعاد اتهام رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، خلط الأوراق الداخلية في إسرائيل عشية انتخابات الكنيست. وباتت حالة اللايقين أكثر حضوراً إزاء سيناريوات ما بعد توجيه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، أفيحاي مندلبليت، الاتهام، وارتدادها على مجمل القوس السياسي الإسرائيلي بلا استثناءات. من المفيد ابتداءً الإشارة إلى ثلاث نقاط قانونية تحكم النتائج المباشرة لتوجيه لائحة الاتهام:
أولاً: لا انعكاس قانونياً مباشراً لسلة الاتهام على منصب نتنياهو بوصفه رئيساً لحكومة إسرائيل. يعني ذلك أن الاتهامات لا تسقطه من منصبه، كذلك فإنه غير ملزم بالاستقالة. هذا الوضع يبقى على حاله إلى ما بعد المحاكمة وصدور الحكم المبرم، بعد مروره بمراتب التقاضي، وصولاً إلى النقض لدى محكمة العدل العليا، الأمر الذي يستغرق وقتاً طويلاً.
ثانياً: لا أثر قانونياً مباشراً على ترشيح نتنياهو لانتخابات نيسان المقبل. الترشيح يبقى قائماً، والحائل الوحيد دونه، أن يُدان نتنياهو، وأن ترد في الحكم عبارة «وصمة عار» التي تحول دون الترشح، وهذا ما سيستغرق فترة طويلة.
ثالثاً: يوجد موجب للتنحي، لكن على خلفية ما يصطلح عليه الإسرائيليون بـ«الواجب الأخلاقي»، وهو ما طلبه نتنياهو نفسه لدى اتهام سلفه، إيهود أولمرت، بالاتهامات عينها الموجهة إليه. يتحرك هذا «الواجب» بوصفه إجراءً طبيعياً وضرورياً، كما توحي به مواقف أقطاب سياسية تستفيد من الاستقالة، لكن لا إلزام قانونياً بذلك. كذلك لا يبدو أن نتنياهو، على نقيض مواقفه ضد غيره، في وارد الاستجابة، حتى الآن على الأقل، للأصوات التي دعته إلى التنحي.
مع ذلك، إن كان نتنياهو غير ملزم قانوناً بالتنحي، إلا أن سيناريوات دفعه إلى ذلك غير منتفية، وإن كانت في معظمها متعلقة بردّ الفعل من داخل البيت، أي من حزب «الليكود» وأقطابه الأكثر تأثيراً فيه. كل الشخصيات ذات المكانة في «الليكود» تترقب انتهاء نتنياهو السياسي، إذ يؤمّن لها ذلك فرصة، لا يبدو أنها متاحة في ظلّ وجوده، في المداورة على رئاسة الحزب وعلى رئاسة الحكومة. ولئن كان الجميع في «الليكود» (تقريباً) ينتظر السقوط، إلا أنْ لا أحد سيبادر (حتى الآن على الأقل) إلى تحريك هذه المطالبة، على خلفية الخشية من ارتداد الطلب على صاحبه، من خلال اتهامه بالشراكة في «المؤامرة»، كما يرد على لسان نتنياهو في أكثر من مناسبة.
ظهّرت الاتهامات كيفية إدارة شؤون «الدولة» في إسرائيل


في ما يتصل بالتداعيات على اليمين الإسرائيلي، فالأمر مختلف بحسب الاصطفاف، وإن كانت معظم الأحزاب اليمينية معنية بأن يؤثر الاتهام في ناخبي اليمين، ويدفعهم إلى الانزياح عن «الليكود» باتجاهها هي، الأمر الذي يعني مزيداً من المقاعد لدى قسم منها، وإمكانية النجاح في الانتخابات لدى قسم آخر، خصوصاً تلك التي كان يُشكّ في إمكانية تجاوزها نسبة الحسم (العتبة الانتخابية)، وبالتالي عودتها إلى الكنيست المقبل. من هذه الأحزاب حزب «إسرائيل بيتنا» برئاسة وزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان، وحزب «كولانو» برئاسة وزير المالية موشيه كحلون، وحزب «شاس» للمتدينين الشرقيين. هؤلاء كان يرجح سقوطهم بالكامل، لكن اتهام نتنياهو عزز آمالهم في البقاء السياسي. على هذه الخلفية، لا يمتنع أقطاب تلك الأحزاب عن التركيز على الاتهامات، وتعظيم تداعياتها وتأثيرها في الوعي الجمعي لدى ناخبي «الليكود»، بهدف الإضرار بنتنياهو وإبعاد ناخبيه عنه.
لكن ماذا عن أحزاب الوسط واليسار؟ الواضح أن الأمل في إمكان تشكيلها الحكومة بات مرجحاً أكثر من ذي قبل، وتحديداً قائمة «أزرق أبيض» التي يقودها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق بيني غانتس، وهي التي تصدرت استطلاعات الرأي بفارق كبير جداً ما إن تردد أن الاتهامات ستوجه إلى نتنياهو. لكن هل هذه القائمة، التي تجمع ثلاثة رؤساء أركان سابقين (إضافة إلى غانتس، موشيه يعلون وغابي أشكنازي)، تراكم أعداداً متزايدة من المقاعد من رصيد أحزاب اليمين أو من رصيد أحزاب الوسط واليسار؟ الواضح أكثر أن التراكم الكمي لم يكن يغيّر من الميزان بين اليمين وما يقابله من وسط ويسار، حيث كانت لائحة «أزرق أبيض» تأكل مقاعد أحزاب مصطفة إلى جانبها، فيما عدد المقاعد لدى اليمين على حاله دون تغيير، وإن جرى انتقال ناخبين داخل اليمين نفسه نتيجة التنافس بين أقطابه.
مع اتهام نتنياهو، قد تحدث تغييرات ترتبط بكتلة عائمة تتحرك ما بين يسار اليمين ويمين الوسط، ومن شأنها أن تتأثر باتهام نتنياهو وتبتعد عن «الليكود». ونتيجة تموضع هذه الكتلة ما بين اليمين والوسط، ستنزاح بنحو طبيعي إلى يمين الوسط الأقرب إليها بعد ابتعادها عن «الليكود»، أي إلى غانتس وحزبه، حيث من اليمينية في القائمة (المختلطة فعلياً) ما يكفي لإرضاء هذه الشريحة (موشيه يعلون مثلاً). يعني ذلك انتقال مقاعد من اليمين إلى الوسط، وهو يشكل معطىً جديداً من شأنه التأثير على نتيجة الانتخابات، ويزيد من فرص الوسط في تشكيل الحكومة المقبلة.
مع ذلك كله، يفصل الناخب الإسرائيلي عن الانتخابات ما يقرب من أربعين يوماً، يُقدر أن تكون حبلى بتطورات وتغييرات. وإذا كانت السيناريوات الموضوعة هنا مبنية على فرضية معاندة نتنياهو وامتناعه عن الاستقالة، وهي الأرجح، إلا أن تطوراً مغايراً مبنياً على الاتهامات قد يطرأ على المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة، خاصة إن اشترك في «مؤامرة» إسقاط نتنياهو أقطاب مؤثرون من «الليكود»، وهو ما يفتح مجالاً على كل الاحتمالات.
في المحصلة، الاتهامات تخدم مصلحة بيني غانتس ولائحته «أزرق وأبيض»، وتستفيد منها أيضاً أحزاب يمينية كان يُشكّ في فوزها بأي مقعد في الانتخابات، وفي الوقت نفسه تزيد الأمل الذي كان مفقوداً لدى أقطاب «الليكود» في خلافة نتنياهو، الذي تربع على رأس الحزب بلا منافس حقيقي لسنوات طويلة. أما من ناحية نتنياهو، فيُرجح ألّا يتراجع، وأن يستميت في الدفاع عن بقائه السياسي باستخدام كل الإمكانات المتاحة لديه، وتحديداً ما يتعلق بأداء دور الضحية، التي ستكون عنوان حملته الانتخابية، وهو ما بدأه بالفعل قبل اتهامه، ضدّ القضاء والادعاء العام واليسار والوسط و«الانتهازيين» من اليمين، وكذلك وسائل الإعلام التي تقود «المؤامرة» عليه، بحسبه.
مع كل ما ورد، ورغم تسجيل سابقة جديدة من شأنها خدمة صورة إسرائيل كما يراد لها أن تكون في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة، ومن دون أن يعني ذلك التقليل من فساد الدول المحيطة وفساد حكامها، إلا أنه لا يمكن إغفال ما تكشّف من مضمون الاتهامات، التي ظهّرت كيفية إدارة شؤون «الدولة» في إسرائيل، من خلال تلقي الرشى وتوجيه العطاءات، مع شراء المواقف والإعلام والتلزيمات، التي تستتبع تغيير ولاءات وخدمة مصالح شخصية.