الحرب الاقتصادية على الصين لإعاقة تطورها التكنولوجي
لا تقل الحرب الأيديولوجية التي تشنها الولايات المتحدة ضد الصين شراسة عن تلك الاقتصادية والتجارية. التقارير الاستراتيجية الرسمية الأميركية والدوريات المتخصصة في السياسة الخارجية ومقالات وسائل الإعلام الرئيسية تزخر بالاتهامات الموجهة للصين التي أضحت تجسيداً جديداً لـ«الشر» بعد الاتحاد السوفياتي والإرهاب. دورية «فورين أفيرز»، «الرصينة»، اختارت لعددها الأخير، الصادر هذا الشهر، العنوان الآتي: «من الذي سيقود العالم؟ عن أميركا والصين والنظام العالمي». كتّاب وخبراء من خلفيات فكرية وسياسية متباينة، كريتشارد هاس وروبرت كاغان، يسهمون في موجة التهويل من الخطر الصيني المحدق بالولايات المتحدة وبنظامها الدولي «الليبرالي». ليونيل فيرون، الدبلوماسي الفرنسي السابق وأحد أبرز الخبراء في الشؤون الصينية، قدّم لـ«الأخبار» قراءة مختلفة لخلفيات أزمة النظام الدولي وللسياسة الأميركية الهجومية ضد الصين والاستراتيجية التي تعتمدها الأخيرة لمواجهتها.
الولايات المتحدة، حسب ليونيل فيرون، تريد تحميل الصين مسؤولية الأزمة الوجودية التي يعانيها النظام الدولي الذي رعته منذ الحرب العالمية الثانية: «الإشكال الرئيسي هو تباين النظر لواقع هذا النظام، المسمّى ليبرالي، بين واشنطن وبكين. الدعاية الأميركية المكثفة هذه الأيام تحمّل الصين قسطاً كبيراً من المسؤولية عن تفككه، يفوق أزماته الذاتية السياسية والاقتصادية. هم يعتبرون صعود الصين تهديداً لهذا النظام ويتعمدون الخلط بين مستوياته السياسية والاقتصادية، فتصبح الأخيرة خطرة بسبب طبيعة نظامها غير الديمقراطية بحسب معاييرهم، وليس لعدم التزامها بقواعد اللعبة الاقتصادية التي حددها النظام الدولي. فإذا نظرنا إلى الصين من موقع أكثر حيادية، خصوصاً بعد وصول شي جين بينغ إلى السلطة، فسنرى أنها تتجه إلى اندماج أكبر بهذا النظام الدولي الليبرالي على المستوى الاقتصادي، وهي، بعد انتخاب دونالد ترامب، تتزعم الدفاع عنه بالنسبة إلى قضايا حرية التبادل التجاري ومعارضة السياسات الحمائية في مواجهة الولايات المتحدة التي انقلبت فجأة إلى قوة مناهضة لليبرالية الاقتصادية. الملاحظة الأولى إذاً هي أن النظام الليبرالي الدولي ينهار بسبب السياسات الأميركية المستجدة لا الصينية. من جهة الصين، هناك تمسك بهذا النظام وما يفترضه من انفتاح اقتصادي وحرية تبادل تجاري لأسباب بديهية متصلة بنموها الاقتصادي. هي خفضت تعريفاتها الجمركية بشكل ملحوظ في السنتين الماضيتين من 2.5 إلى 3 في المئة لتعزيز التبادلات التجارية بينها وبين بقية العالم. المقاربة الأميركية أيديولوجية لا أكثر، ولا تمت إلى الواقع بصلة. أشرفت الولايات المتحدة على إنشاء هذا النظام بعد الحرب العالمية الثانية ورعته عندما كان منسجماً مع مصالحها. لكن بما أنه قد أتاح في مرحلة لاحقة صعود قوى أخرى، أكانت أوروبية أم روسية أم صينية، بدأت تعمل واشنطن على تفكيكه».
دأب الولايات المتحدة لوقف التطور التكنولوجي للصين هو المبعث المركزي للصراع بينهما حسب فيرون: «للصين مقاربة شديدة الواقعية لإشكاليات النظام الدولي، وهي مطابقة في العمق للمقاربة الأميركية غير المعلنة. التحدي الرئيسي بالنسبة إلى الطرفين هو التحدي التكنولوجي لا الاقتصادي القابل للتسوية بينهما. الصين دخلت المرحلة الثالثة والأخيرة من صعودها منذ عام 2012، وهي مرحلة محفوفة بأعلى المخاطر منذ بداية الاصلاحات الاقتصادية سنة 1979، والأشد صعوبة لها، لأنها قد تقودها إلى موقع مهيمن، لا على المستوى الاقتصادي وحده، بل على المستوى التكنولوجي أيضاً، في مقابل الولايات المتحدة التي تعتبر هذا الأمر خطاً أحمر من غير المقبول تجاوزه. من المفترض أن تتحول الصين خلال هذه المرحلة الثالثة، أولاً في 2021 ومن ثم في 2049، من دولة نامية إلى دولة متطورة. يستند هذا التحول إلى القدرات التكنولوجية المتعاظمة للشركات الصينية في المجالات المدنية والعسكرية، وهو يثير هلع واشنطن لأنه قد يسمح للصين بالوصول إلى درجة من الهيمنة تصعب منافستها. القوة الرائدة تكنولوجياً حتى الآن على النطاق العالمي هي الولايات المتحدة، وهي ستفعل ما في وسعها للحفاظ على هذه الريادة. قد تقبل بفقدان هيمنتها على مناطق معينة أو في بعض القطاعات الاقتصادية، لكنها لن تقبل بفقدان هيمنتها التكنولوجية وما يترتب عليه في مجال عسكرة الفضاء والحرب السيبرانية مثلاً. هدفها هو إعاقة نمو اقتصاد الصين لإعاقة تطورها التكنولوجي».
الصين دخلت المرحلة الثالثة والأخيرة من صعودها منذ عام 2012


هذا السياق يسمح بفهم أفضل لأزمة اعتقال المديرة المالية لشركة «هواوي»: «من فضائل ترامب أنه يصرح بدوافع الأفعال الأميركية من دون التباس. لقد اعترف ترامب بمعنى ما أن غاية اعتقال ابنة مؤسس هواوي هي ابتزاز تنازلات من الصين في ميادين تجارية واقتصادية. هواوي شركة خاصة تتمتع بصلات وثيقة مع الحكومة الصينية، وهي امبراطورية حقيقية على النطاق العالمي، وكانت الشركة الأولى دولياً في تقديم براءات الاختراع (1500 براءة اختراع) عام 2016. قطاع الاتصالات حيوي على المستوى التكنولوجي وذو ربحية عالية. تفقد بلدان القارة الأفريقية مثلاً مليارات الدولارات في هذا القطاع نتيجة اعتمادها على قدرات الأقمار الصناعية الأميركية، وقد يكون أحد دوافع إسقاط القذافي مشروعه لبناء قمر صناعي أفريقي. للمرة الأولى تلجأ الحكومة الأميركية مع اعتقال السيدة مينغ إلى عملية ابتزاز مكشوفة بهذا القدر. هي اليوم رهينة لدى هذه الحكومة».
هل لدى الصين طموح الحلول في مكان الولايات المتحدة لقيادة العالم؟ «تعاني الصين من وزنها الديمغرافي وما يترتب عليه من أعباء مالية واقتصادية وسياسية. لم تظهر الصين أيّ نية للحلول في مكان الولايات المتحدة كقوة أولى، لسبب بسيط يذكره باستمرار المسؤولون الصينيون، وهو المصاعب الجمة الناجمة عن تصدّر هذا الموقع الذي قد يحفز أطرافاً أخرى للائتلاف ضد من يحتله. هم يفضلون موقع القوة الثانية الأقل لفتاً للأنظار، والذي يسمح بهامش أوسع للحركة، وهي مقاربة صينية بامتياز. المصاعب تبدأ عند وضع استراتيجيات مثل: حزام واحد... طريق واحد، موضع التنفيذ. ضخامة الامكانيات والموارد الاقتصادية والمالية والبشرية التي يجري حشدها تضع، موضوعياً، الصين في موقع المنافس لأميركا. هي تتجنب استفزاز الولايات المتحدة عبر العزوف عن تطوير قدرات عسكرية في بعض الميادين قد تشعرها بأنها مهددة فعلاً. ومهما كانت قدرات الصين العسكرية العامة اليوم، فإنها أقل مما تستطيع أن تطوره لو كانت قد قررت التحول إلى القوة العسكرية الأولى، لكنها لم تقرر ذلك. أقصى ما تريده هو إبعاد الولايات المتحدة وقواعدها وأساطيلها عن قلبها وأطرافها، وقاعدة غوام الأميركية تقع على مسافة أربع ساعات طيران عن مراكزها الحيوية الصناعية والبشرية، وهي تنسج التحالفات وتعتمد دبلوماسية نشطة لهذه الغاية. أكلاف التحول إلى القوة الأولى مرتفعة جداً. وهذه الأكلاف، بينها التزامات تجاه الحلفاء وانتشار عسكري في أرجاء المعمورة والتورط في حروب ونزاعات متعددة، تفسر إلى درجة كبيرة تراجع القوة الأميركية الذي نشهده حالياً. تعتمد الصين حقيقة استراتيجية إقليمية في جوارها الآسيوي تهدف إلى كسب الحلفاء وتحييد حلفاء واشنطن، وهي استراتيجية بدأ تطبيقها منذ الشروع في الإصلاحات الاقتصادية في عهد دينغ سياو بينغ عام 1978. تم في السنوات العشر الأولى توقيع اتفاقيات لحل الخلافات الحدودية مع دول الجوار بما فيها روسيا. ما زال هناك خلافات حدودية مع اليابان والهند فقط. منذ أن أعلن أوباما سياسة الاستدارة نحو آسيا، وهي سياسة هجومية بالمعنى الكامل للكلمة، قام وزير الدفاع الأميركي آنذاك بزيارة عدد كبير من دول جوار الصين، كفيتنام وباكستان والفيليبين والهند، معلناً عن نية أميركية بوجود عسكري أكبر وعن هبات وقروض وإعادة فتح لقاعدة سوبيك باي البحرية في الفيليبين. انتقل الصينيون بدورهم إلى سياسة مضادة نشطة لمواجهة التطويق والاحتواء الأميركيين. وقد نجح الصينيون في إفشال هذه السياسة نسبياً في الفيليبين وفيتنام، ويسعون بصعوبة للتوصل أيضاً إلى تفاهمات مع الهند».
البناء الأوراسي، كابوس الاستراتيجيين الأميركيين، في طور التحقق أمام أعينهم. «إحدى ميزات الاستراتيجيين الصينيين هي أنهم يقرأون كثيراً، ولا شك في أنهم، بعد الاطلاع على كتاب زبغنيو بريجنسكي (رقعة الشطرنج)، قد توقفوا طويلاً عند فكرة البناء الأوراسي وتداعياته على النفوذ الأميركي في القارة الآسيوية وفي العالم القديم بشكل عام. لست متأكداً من أنهم كانوا قد فكروا في الموضوع قبل ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصين لم تكن عبر التاريخ قوة بحرية، وتفكيرها الاستراتيجي قاري، على عكس الامبراطوريات البحرية، كالولايات المتحدة اليوم أو بريطانيا في السابق. مشروع حزام واحد طريق واحد، ترجمة لهذه الاستراتيجية القارية التي تربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا عبر شبكة ضخمة من البنى التحتية التي تسمح حالياً بالسفر، مثلاً، من بكين إلى مدريد بالقطار. الاندماج المتدرج والطويل الأمد لقارات العالم القديم بفضل شبكة البنى التحتية والتفاعلات الاقتصادية والالتزامات الناتجة عنها في ما بينها ستقود فعلاً إلى المزيد من ضمور دور الجزيرة الكبرى الأميركية. سياسة أميركا أولاً، التي يعلنها ترامب، كانت دائماً جوهر السياسة الخارجية للولايات المتحدة بنظري إذا تجاوزنا الشعارات والمظاهر، لكن الجهر بها الآن يحفز العديد من الدول للاستدارة الايجابية نحو الصين. وتجد بكين في موسكو، المستهدفة بدورها من استراتيجية الاحتواء الأميركية والشريكة الكبرى في ميدان الطاقة، حليفاً وثيقاً في مشروع البناء الأوراسي. نقطة أخرى تستحق الاهتمام، وهي تلك المتعلقة بالتهم الأميركية المثيرة للسخرية للصين بعدم الإفصاح عن الحجم الفعلي لإنفاقها العسكري. لا يعلم قسم وازن من الخبراء والمعلقين أن الإنفاق الأميركي على الأسلحة النووية غير مدرج في الميزانية العسكرية وتبقى أرقامه سرية. بكلام آخر، لا أحد يعرف حجم الإنفاق العسكري الأميركي الإجمالي، باستثناء المسؤولين الأميركيين، لكن هؤلاء لا يتورعون عن إعطاء دروس شفافية للصين!».