توقيف المديرة المالية لشركة «هواوي» الصينية منغ وان شو من قبل السلطات الكندية بناء على مذكرة اعتقال أميركية مؤشر واضح على أن استراتيجية الاحتواء الأميركية المعتمدة ضد الصين أصبحت تشمل مجال التكنولوجيا. لم تتوقف أغلب التحليلات والتعليقات حول عملية التوقيف، وبعضها لخبراء غربيين «غير وديين» تجاه الصين، كثيراً عند الذريعة المستخدمة لتبريرها، أي قيام المديرة المالية الصينية بمحاولة الالتفاف على العقوبات ضد إيران وبيعها منتجات تضم مكونات أميركية. فهي تأتي في سياق ما سمّته مجلة «إيكونوميست»، في عددها الصادر يوم الأول من هذا الشهر، «حرب الرقاقات الإلكترونية» بين واشنطن وبكين. اللافت أن المقال كتب قبل توقيف منغ الذي جرى في الأول من الشهر أيضاًَ. الأسبوعية نفسها التي تعكس وجهات نظر جزء معتبر من النخب الاقتصادية وأوساط الأعمال الغربية، كانت قد خصصت افتتاحية عددها الصادر في العشرين من تشرين الأول الماضي للمواجهة المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة والتحذير من مخاطرها وتداعياتها على «الاستقرار العالمي» مع أنها حمّلت الصين المسؤولية الأكبر عنها. التحليلات «الموضوعية» تتحدث عن حرب باردة تكنولوجية بين الصين وأميركا، بينما الحقيقة هي حرب باردة أميركية على الصين. هذه الأخيرة لم تبادر إلى إصدار مذكرات توقيف بحق رجال أعمال أميركيين، بل العكس هو الذي جرى. ويحظى استهداف الصين والسعي إلى احتوائها بإجماع القسم الأعظم من النخب السياسية الأميركية التي يتبارى «ديموقراطيوها» و«جمهوريوها» على تقريعها والتحريض عليها (China (Bashing). دونالد ترامب، على الرغم من رعونة مواقفه وقراراته، يعبّر عن هذا الإجماع وعن استمرارية الاستراتيجية التي بدأ تطبيقها خلال عهد باراك أوباما منذ دعوته الشهيرة «للاستدارة نحو آسيا».
مغزى استهداف «هواوي»
«رقائق الكمبيوتر هي أساس الاقتصاد الرقمي والأمن القومي. السيارة باتت كمبيوتر على عجلات والبنك كمبيوتر يحرّك المال، والجيوش تحارب بالسليكون والحديد. شركات أميركا وحلفائها، ككوريا الجنوبية وتايوان، تسيطر على القطاع الأكثر تطوراً في هذه الصناعة. أما الصين، فهي لا تزال تستورد الرقائق الإلكترونية المتطورة من الخارج وتنفق عليها أكثر مما تنفق على وارداتها من النفط» حسب «إيكونوميست». بكلام آخر، الصين تعاني من التبعية في هذا القطاع الحيوي بالنسبة إلى مستقبلها، ما حدا بها إلى اعتبار إنتاج أنصاف الناقلات الإلكترونية (semiconductors) بين أولويات خطتها التنموية العشرية، «صنع في الصين»، التي جرى إقرارها عام 2015. قبل هذا التاريخ، عملت الولايات المتحدة على السعي الى حرمانها من التمكن من هذه التكنولوجيا، فعمدت إدارة أوباما عام 2015 الى منع شركة «انتل» من بيع رقائق للصين وإحباط عملية شراء صينية لشركة «اكسترون» الألمانية المنتجة لأنصاف الناقلات. وقد تضاعفت قوة هذه المساعي بعد وصول ترامب الى السلطة، مع أن الإدارة الأميركية مدركة أنها ستنجح في أحسن الأحوال في تأخير قدرة الصين على إنتاج أنصاف الناقلات وليس في منعها. وبما أن عمالقة التكنولوجيا في هذا البلد، مثل شركات «علي بابا» و«بايدو» و«هواوي» يؤدّون دوراً مركزياً في المجهود التكنولوجي الصيني، فإن استهداف «هواوي» يندرج في إطار محاولات التأخير المذكورة. وما يزيد من التركيز عليها هو صلاتها العضوية بالدولة الصينية وخلفية مؤسسها رن جنغفي، الذي كان ضابطاً مهندساً في الجيش الصيني قبل أن يؤسسها عام 1983.

محاولة إحباط «الصعود السلمي»
لقد حرصت الصين منذ نهاية الثنائية القطبية وحتى إعلان أوباما عن «الاستدارة نحو آسيا» على التأكيد على أهمية المصالح المشتركة بينها وبين الولايات المتحدة، وبدا لفترة طويلة نسبياً أنها لا تمتلك سياسة خارجية تتعدى تطوير الشراكات الاقتصادية والتجارية مع مختلف بلدان العالم، مهما كانت هوية أنطمتها الأيديولوجية وطبيعة تحالفاتها الدولية. النظر إلى الشراكات «الاستراتيجية» التي طورتها في الشرق الأوسط في الآن نفسه مع أطراف متناقضة كإيران والسعودية وإسرائيل يدلّ على ثبات المقاربة الصينية للعلاقة مع العالم الخارجي، باستثناء العلاقة مع الولايات المتحدة. وحتى على مستوى الخطاب، استخدمت مفردات تنم عن حذر شديد وتواضع أشد لعدم استفزاز الولايات المتحدة فكانت، لوصف تعاظم قدراتها الاقتصادية والعلمية والصناعية، تفضل مفهوم «النمو السلمي» على غيره. جهر إدارة أوباما بنيّتها احتواء الصين هو الانعطافة الكبرى في تاريخ العلاقات الصينية ــــ الأميركية. صحيح أن التموضع العسكري الأميركي في ما كان يطلق عليه في تقارير البنتاغون منطقة آسيا ــــ المحيط الهادئ، وأضحى يسمى الآن منطقة الهند والمحيط الهادئ رغبة في تجاهل الصين ووزنها سابق على إعلان أوباما، إلا أن هذا الإعلان فُسّر في بكين على أنه تسريع لمواجهة كانت تريد تأخيرها قدر المستطاع. مع شي جين بنغ، نحن أمام «صعود سلمي» لا مجرد «نمو»، وتبلور سياسة خارجية تشكل الشراكة الاستراتيجية مع روسيا أحد مرتكزاتها. وإذا كان مشروع الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، الذي انسحبت منه إدارة ترامب، محاولة لاستكمال تطويق الصين على المستوى العسكري عبر تعميق الصلات الاقتصادية لقسم من دول جوارها الجغرافي بالولايات المتحدة، فإن الرد الصيني كان عبر مشروع حزام واحد ــــ طريق واحد، القاري والذي يرمي إلى تشييد فضاء اقتصادي أوراسي يجمع غالبية بلدان «العالم القديم». وقف الصعود السلمي الذي سيقود في حال استمراره إلى تحول هذا الفضاء إلى حقيقة فعلية في المستقبل المتوسط، وهو من أسوأ كوابيس أجيال من المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين الذين يعتبرونه مرادفاً لانحسار نفوذ أميركا إلى داخل حدودها، أولوية الأولويات في واشنطن واستهداف «هواوي» انتقال الى طور جديد في المواجهة مع صين باتت مستعدة لها.