أسست سارة فاغنكنشت، وهي أحد وجوه اليسار الألماني الجذري، حركة سياسية جديدة باسم «انهضوا»، تدعو إلى تشديد سياسة الهجرة. ويُظهر ذلك التنازل الأيديولوجي (لدوافع انتخابية) الذي تقترفه بعض تيارات اليسار - المُصنفة خطأً على أنها «جذرية» - أنها متفوقة على «يسار الكافيار»، لتبدو تلك التيارات، التي تنهل من الأرضية الفكرية لأقصى اليمين، مصابة بمتلازمة «كندا دراي».يُذكّر ادعاء هذه الحركة المدافعة عن تصور قومي وسيادوي، وانتماؤها إلى تيار أممي، بشعار إحدى الحملات الإعلانية لمشروب غازي خالٍ من الكحول في فرنسا ظهر خلال الثمانينيات: «أصفر براق مثل الكحول، اسمه مشابه لاسم الكحول... لكنه ليس كحولاً».
اليوم، تعتمد حركة «انهضوا»، التي توصف بأنها من «اليسار الجذري»، على خطاب تأمين الحدود لمقاومة صعود أقصى اليمين الألماني، متسلحة بمصطلحات محايدة من سبيل «السيطرة على الحدود» و«سياسة أخرى للهجرة». تدافع فاغنكنشت عن سن إجراءات مُقيدة للهجرة، مستخدمة حججاً في شأن المصلحة الوطنية، ما يضعها في قطيعة مع الأقلية اليسارية التي تساند فتح الحدود.
وخلف الوجه المُتخيل للحركة السلمية، المعادية للرأسمالية، وادعائها الانتماء إلى اليسار الجذري، تنفتح فاغنكنشت على أفكار أقصى اليمين، مُكررة النغمة القديمة المُفلسة حول خطر تدفقات المهاجرين على الوظائف والمكاسب الاجتماعية للألمان. وباستخدامها حججاً من قبيل أن «استقبال مهاجرين اقتصاديين أكثر، يعني رفع المنافسة، ما ينعكس في خفض الرواتب» وأن «عدد المساكن الاجتماعية لم يعد غير محدود»، تتعزز فكرة وجود رابط بين الهجرة الاقتصادية والبطالة والشقاء الاجتماعي.
الصبغة العامة لهذا الخطاب توجد لدى «الديموقراطيين الاجتماعيين» الدنماركيين أيضاً، ويظن هؤلاء أن فتح الحدود أمام الهجرة يحول دون الحفاظ على دولة اجتماعية قوية. تُشوَّه الحقيقة عبر إرجاء البطالة لسبب بسيط: فائض من المهاجرين يسرقون الوظائف. ويخلق هذا المنطق الثنائي فئتين متعارضتين كلياً: «المهاجرون» مقابل «أهل البلد».
لا تقف هذه الأقوال عند تحفيز المخاوف التي لم تعد منذ أعوام محتكرة من قوى أقصى اليمين، التي صارت متقاربة في بعض الدول الأوروبية، مثل الدنمارك، مع «الديموقراطيين الاجتماعيين»، على أرضية الدفاع عن القيم الوطنية ضد الغزو الأجنبي، بل صارت اليوم تُلوّث خطاب جزء من اليسار «الجذري» الذي صار يتلون بألوان قومية معادية للأجانب، وينازع ضد الهجرة، متودداً للأطروحات الغائمة حول غلق الحدود من أجل حماية الرواتب وسوق العمل.
في واقع الأمر، تبحث تلك التيارات، بالاستيلاء على الخطاب الأمني، والمزايدة على أقصى اليمين بالتملق لقاعدة انتخابية شعبية واعية بعجز الديموقراطية الاجتماعية، عن اقتراح سياسة جديدة في مواجهة التحديات التي يفرضها التحول الحالي ضمن الرأسمالية، وتتوجه أكثر فأكثر نحو اليمين. وفي ظل تضحية أغلب اليسار الحاكم في أوروبا منذ وقت طويل بقناعاته الأيديولوجية على مذبح مصالحه الانتخابية، متخذاً مقاربة وسطية بين «الإنسانية والحزم»، من دون أن ينجح في مواجهة منظمات أقصى اليمين، التي تجمع بين منطق هوياتي وخطاب اجتماعي حمائي مغرٍ للفئات الاجتماعية المتضررة من الآثار المدمرة للاقتصاد الرأسمالي، جاء اليوم دور جزء من اليسار المسمى جذرياً ليحاذي حذوه.
من التناقض أن نطلق على حركة مشابهة لتلك التي أسستها سارة فاغنكنشت في ألمانيا صفة «اليسار الجذري»، وذلك أن التخلي عن الأممية والتضامن (وهما قيمتان تقليديتان لدى هذا الصنف من اليسار) لمصلحة تصور قومي ينهل من أسطورة السيادة، ليس أكثر من تنازل أيديولوجي. وكما يلخص الجامعي الفرنسي، ديدييه بيغو، في قراءته مسألتي الأمن والهجرة، لا تمثل السيادة ولا الأمن «أداتان لتحليل الواقع الاجتماعي، بل مقولتان يجب تتبع نسبهما، وهما مرتبطتان بشكل مخصوص من الحاكمية، وبالذات تلك المرتبطة بالدولة المسماة وستفالية وتجسداتها الحديثة. ويجب فهم الإحياء المعاصر لحجة السيادة على أنها سردية ترمي إلى اللعب على أوتار السلطة الرمزية للحكام، وفرض ممارسات اجتماعية تصب في الاتجاه المطلوب».