طهران | حظر المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، على حكومة الرئيس حسن روحاني عقد أي محادثات مع الولايات المتحدة، مُعلِّلاً القرار بأن «انسحاب أميركا من الاتفاق النووي برهان واضح على أن أميركا لا يمكن الوثوق بها، حيث إنها لا تفي بتعهداتها في المحادثات». بهذا القول، يردّ خامنئي على السياسيين الإيرانيين الذين طالبوا النظام بالدخول في لعبة التفاوض مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من أجل تخفيف التوتر وخفض منسوب تهديداته. ثم أعاد خامنئي الكُرة إلى ملعب ترامب، وحمّله مسؤولية قطع المحادثات بين الطرفين، رافضاً دعوته إلى التفاوض مع إيران.القضية النووية الإيرانية، ومنذ عام 2013، كانت قد فتحت الباب على مصراعيه أمام المفاوضات الإيرانية - الأميركية، ووفّرت تبريراً كافياً للقاءات وزيرَي خارجية إيران وأميركا، المتكررة والمتواصلة. لقاءات وصلت كثافتها حداً يمكن معه القول إن جواد ظريف وجون كيري تبادلا الزيارات بين العامين 2013 و2016 أكثر من أي وزراء آخرين. اليوم، يبدو أن الكلمة المفتاحية لخطاب المرشد، أول من أمس، هي: «لو افترضنا من باب المستحيل أن نوافق على التفاوض مع الولايات المتحدة فإننا لن نتفاوض مع هذه الحكومة الحالية». عبارة تفيد بتجميد جهود الوسطاء، وخاصة الوساطة العمانية، للتهدئة بين إيران وأميركا، وتوحي في الوقت نفسه بأن إيران تفرّق بين حكومة الديمقراطيين وحكومة الجمهوريين، ولا مانع لديها ــ مبدئياً ــ من التفاوض كما أثبتت ذلك في عهد الرئيس باراك أوباما، حين دخلت في التفاوض مع حكومته سراً في عمان في عام 2012، قبل مجيء الرئيس حسن روحاني بعام. ثم يبدو أن إيران تراهن على هزيمة الجمهوريين وفوز الديمقراطيين في الانتخابات النيابية المقبلة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، التي تمثل خطوة تمهيدية لتخلّص العالم من شر ترامب نهائياً في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2020. ذلك لأن تلك الانتخابات النيابية مصيرية جداً لمستقبل الاتفاق النووي والعلاقات الإيرانية - الأميركية، بل والعلاقات الأوروبية - الأميركية. وحينها، يمكن الحديث عن التفاوض بين إيران و«أميركا الديمقراطيين» كما تحقق سابقاً في خلال المفاوضات النووية مع حكومة أوباما.
ويبدو أيضاً أن الديمقراطيين الأميركيين يراهنون أيضاً على الدور الإيراني في فوزهم بتلك الانتخابات. فاستسلام إيران لضغوط ترامب سيكون على حساب الديمقراطيين، ويمثّل ورقة رابحة لترامب حتى يستثمرها في الانتحابات النيابية والرئاسية المقبلتين. وتكشف مصادر مطلعة أن وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، حثّ نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، في لقائهما الأخير، على الصمود أمام ضغوط ترامب والبقاء في الاتفاق النووي. تعرف إيران جيداً أن التقارب الإيراني - الأميركي يثير سخط إسرائيل والمملكة السعودية، لكنها ترفض دعوة ترامب إلى التفاوض، لأن الأخير يستخدم أساليب عنيفة ومستفزة ومسيئة إلى كرامة الشعوب والدول، فيما العناد الإيراني يرفض الاستسلام لضغوط كهذه، ويمكن القول إن النظام الإيراني بعد استئناف العقوبات الأميركية يستعيض بالوحدة القومية والتضامن الوطني عن خسائر تلقّاها بفعل عودة العقوبات الأميركية.
المرشد الإيراني سبق أن فتح باب التفاوض مع الولايات المتحدة حول الاتفاق النووي، وخلال تلك المفاوضات أعلن استعداده لتوسيع دائرة التفاوض معها إذا لمس صدقية الأميركيين وجديتهم. كان خامنئي يتوقع أن يثمر الاتفاق النووي في عهد أوباما لدرجة يحفز معها على الدخول في التفاوض بشأن قضايا إقليمية، لكن الثمار لم تكن بحجم المأمول. ثم إن إيران تواصلت مع أميركا بعد الاتفاق النووي، واللقاءات بين الوزيرين ظريف وكيري، ومن بعده تيلرسون، استمرت، ولم تنسحب إيران من المحادثات مع أميركا، وكان من شأنها أن تستمر حتى الآن في ما يتعلق بالاتفاق النووي، بل تتوسع إلى قضايا إقليمية في حال إثبات الولايات المتحدة صدقيتها وجديتها، لكن ترامب هو الذي قضى على التواصل بين الطرفين، ولم يترك بصيص أمل لتحسين العلاقات بانسحابه من الاتفاق النووي، وفرض الحظر على إيران.
يراهن ترامب على تأثير العقوبات على المواطن الإيراني، لتثيره وتدفعه إلى الاحتجاج ضد النظام حتى يقع النظام بين مطرقة العقوبات الأميركية وسندان الاحتجاجات الداخلية، ولا يبقى له مخرج إلا المجيء إلى طاولة المفاوضات. لا شك في أن الرهان على غضب الشارع الإيراني هو رهان خاسر، رغم أن العقوبات تجعل المواطنين تحت ضغوط معيشية، لكن الشعب الإيراني، وفق تعبير كبيرة المفاوضين النوويين الأميركيين وندي شرمن، شعب «يتمتع بثقافة المقاومة والصمود»، ولن يستسلم لضغوط ترامب. بل يمكن القول إن ترامب زاد كره الشعب الإيراني للولايات المتحدة أضعافاً مضاعفة، وأوضح صورتها لديه كقوة متغطرسة ومستكبرة تحاول بسط سيطرتها على العالم ولا تلتزم تعهداتها. وهذا هو سرّ الهدوء الذي نقرأه في لغة جسد المرشد الإيراني. فعند مقارنة لغة جسده في الخطاب الأخير مع خطابه قبل ثلاثة أشهر، عقب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، نشاهد ثقة نفسية في خطابه الأخير، واطمئناناً ذاتياً وطمأنةً للشعب باستحالة نشوب حرب بين إيران وأميركا، كما حدوث تفاوض بينهما.
هل يمكن أن تتراجع طهران عن قرار رفض التفاوض؟ بطبيعة الحال، إيران لن تقبل الدخول في أي محادثات مع أميركا إلا بعد اعترافها بالاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها. وإيران ليست كوريا الشمالية (اقتصادياً وسياسياً)، وليست فنزويلا (اقتصادياً)، حتى تستسلم أو تنهار. هي عصيّة على الانهيارين الاقتصادي والسياسي، ولديها مخزون من الموارد وبنية تحتية اقتصادية وصناعية وسياسية وعسكرية قوية تجعلها قادرة على تجاوز اللحظة «الترامبية». التفاوض مع إيران يتطلب مقدمات يعجز عن توفيرها ترامب. وباب التفاوض مع إيران، وفق ما يقول العارفون بخفايا السياسة الإيرانية، مفتوح «لِمَن يريد أن يأتي البيوت من أبوابها»، لكن مشكلة ترامب، بنظرهم، أنه «لا يعرف الباب ويريد الدخول من وراء الأبواب»!