لا تزال العاصفة التي أثارتها قمة هلسنكي، تلك التي وضعت دونالد ترامب في مواجهة مع مجمع الاستخبارات الأميركية وبعض النواب الديموقراطيين وأقرانهم الجمهوريين، تتّخذ منحى تصعيدياً، خصوصاً بعد دعوة الرئيس الأميركي للقاء نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، مجدداً.آخر الانتقادات التي تعرّض لها ترامب جاءت، أمس، على لسان زعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ الأميركي، تشاك شومر، الذي شدّد على ضرورة ألا يلتقي الرئيس الأميركي نظيره الروسي في اجتماعٍ ثنائي آخر قبل اتضاح تفاصيل قمة هلسنكي. وقال شومر، في بيان، «حتى نعرف ماذا حدث خلال الاجتماع الذي استمر ساعتين في هلسنكي، يجب ألا تكون هناك أي لقاءات ثنائية أخرى للرئيس مع بوتين، لا في الولايات المتحدة ولا روسيا ولا في أي مكان آخر».
انتقادات شومر جاءت بعد دعوات وجّهها مشرّعون ديموقراطيون للكونغرس لاستجواب مترجِمة ترامب، مارينا غروس، أمام المشرعين حول حقيقة ما دار خلال لقاء الرئيسين في العاصمة الفنلندية يوم الاثنين الماضي، وذلك لـ«تبديد الشكوك في ما إذا كان ترامب قد قدّم أي تنازلات لنظيره الروسي أم لا». ويبدو أن «الأسرار» التي تم التطرق إليها خلال قمة هلسنكي، التي عُقدت خلف أبوابٍ مغلقة لمدة ساعتين بدون وجود أي مسؤول آخر، قد تتكشف تباعاً ولكن ليس في القريب العاجل، خلافاً لرغبة الممتعضين من سياسته حيال روسيا، خصوصاً أن امتيازات البيت الأبيض التنفيذية تتيح له عدم كشف محادثات رئاسية خاصة.


الاستخبارات تشكّك: لا نعرف ماذا حدث!
ووسط تضارب الأنباء حول توصّل الزعيمين إلى اتفاقات غير محددة خلال اجتماعهما، أكد مدير الاستخبارات الأميركية، دان كوتس، أنّه لا يعرف ما الذي ناقشه الرجلان خلال القمة وما الذي اتفقا عليه.
وقال كوتس: «لا أعرف ما حدث في ذلك الاجتماع. لقد ذكر الرئيس بالفعل بعض الأشياء التي حدثت في الاجتماع. أعتقد أنه بمرور الوقت سنعرف المزيد». وأوضح كوتس، الذي تُطلع أجهزته يومياً الرئيس الأميركي على أكثر المعلومات سرّية حول التهديدات الأمنية للولايات المتحدة، أنه لم يكن موافقاً على القرار الذي اتخذه ترامب بأن يُقابل بوتين منفردَين مع وجود مترجمين فقط إلى جانبيهما. وقال: «لو سألني (ترامب) كيف يجب أن يتم ذلك، كنت سأقترح طريقة مختلفة».
وعندما سُئل عن احتمال أن يكون الروس قد سجّلوا المحادثات التي تمت بين الرئيسين، أقرّ كوتس بأن هناك «خطراً على الدوام»، لكنه استبعد أن تكون الكُرة التي مررها بوتين لترامب خلال المؤتمر الصحافي الذي تلا اجتماعهما، مجهّزة بميكروفون. وتابع ممازحاً: «لدينا القدرة على التحكم في أشياء كهذه، لتحديد ما إذا كانت تشكل خطراً (...)، لذلك أنا متأكد من أننا دقّقنا عن قرب بهذا البالون».


تصريحات متباينة
في مقلبٍ آخر، لا يزال ترامب عرضة للانتقادات حتى داخل معسكره منذ قمته، إثر تصريحاته التي اعتُبرت مُتساهلة حيال نظيره الروسي. وهو الموقف الذي بدا واضحاً في لهجة السناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، المعروف بتأييده ترامب، والذي رأى أن الأسبوع الذي شهد القمة كان «سيئاً»، مضيفاً: «المطلوب أن يفهم (ترامب) أنه أساء تقدير بوتين».
والمفارقة أن ترامب، ورغم تراجعه عن بعض تصريحاته التي قال إنه أسيء فهمها نتيجة الترجمة الخاطئة، لم يتخذ حتى الآن خطوة جدية لتقليص حجم الانتقادات، إذا ما استُثنيت جهود البيت الأبيض، الذي حاول، مراراً، تدارك تأزم الوضع نتيجة تصريحات ترامب المتباينة بين حينٍ وآخر. آخر تلك المحاولات اقتضت نفي البيت الأبيض قبول ترامب اقتراحاً قدّمه نظيره الروسي، بأن يَسمح الأول للسلطات الروسية باستجواب مواطنين أميركيين، بعدما أثار «الاقتراح المدهش»، وفق تعبير ترامب، انتقادات حادة داخل الولايات المتحدة. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، في بيان، إن الاقتراح الذي «قدمه الرئيس بوتين بإخلاص»، لم يوافق عليه ترامب، آملةً في أن «يسمح الرئيس بوتين للروس الإثني عشر المحددين (المتهمين بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016) بالقدوم إلى الولايات المتحدة لإثبات براءتهم أو إدانتهم».
لاحقاً، أعلنت ساندرز، في تغريدة على «تويتر»، أن ترامب طلب من مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، دعوة بوتين إلى واشنطن في الخريف، وأن تلك المناقشات «جارية بالفعل».
من جانبه، يبدو أن ترامب لم يكلّ من إثارة البلبلة بل يصرّ على إثبات «نجاح» القمة مع نظيره الروسي، رغم عدم وضوح ما آلت إليه المباحثات السرية عموماً. وفي مقابلة أجراها، أمس، مع قناة «سي أن بي سي» (CNBC)، قال ترامب: «سأكون أسوأ عدوّ لفلاديمير بوتين، إذا لم تتطور العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا».


موسكو: الحوار يجب أن يستمرّ
في غضون ذلك، دعا السفير الروسي لدى واشنطن، أناتولي أنتونوف، إلى مواصلة الاتصالات بين الرئيسين بوتين وترامب، معرباً عن استغرابه لموقف الأوساط الحاكمة الأميركية الرافض بشدة لنتائج قمة هلسنكي. وخلال جلسة لمنتدى «فالداي» الدولي في موسكو، ناقشت اليوم نتائج قمة هلسنكي، قال أنتونوف ما يلي:
روسيا مستعدة لبحث فكرة ترتيب لقاء قمة ثانٍ.
من المهم حالياً العمل على متابعة تنفيذ ما تم التوصل إليه من تفاهمات في قمة هلسنكي.
اقتراح موسكو للولايات المتحدة حول تشكيل فريق عمل مشترك في مجال الأمن السيبراني لا يزال قائماً، لكن الكرة الآن في ملعب واشنطن.
التعاون بين روسيا والولايات المتحدة قد أثمر بنتائج ملموسة في سوريا.
المشاورات الروسية الأميركية المغلقة حول معاهدة نزع الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى لا تزال مستمرة.

استفتاء في دونباس؟
كشفت وكالة «بلومبرغ» الأميركية، أن الرئيس الروسي اقترح على نظيره الأميركي إجراء استفتاء في منطقة دونباس لتسوية النزاع في جنوب شرق أوكرانيا. ونقلت «بلومبرغ» عن مصدرين لم تذكر اسميهما، أن بوتين سلّط الضوء على هذا الاقتراح أثناء اجتماعه بالسفراء والمندوبين الروس لدى الدول والمنظمات الدولية الذي عقد أمس في موسكو، مضيفةً أن الأخير منح ترامب الوقت اللازم للنظر في هذا الاقتراح قبل الإعلان عنه. وأشارت «بلومبرغ» إلى أن هذا الاقتراح يعني أن «بوتين مستعد لوقف النزاع في جنوب شرق أوكرانيا» الذي يدخل عامه الخامس، مضيفةً أن هذا القرار من المتعذر أن تؤيده أوكرانيا وحلفاؤها الأوروبيون في حال دعمه ترامب.
من جانبه، رفض المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، التعليق على هذه المعلومات، مكتفياً بالقول إن بعض الاقتراحات الجديدة حول تسوية الأزمة في أوكرانيا تطرق إليها الرئيسان أثناء قمة هلسنكي.

«العدل الأميركية»: حذار من أي تدخل جديد
وسط الارتباك الذي يحيط بالإدارة الأميركية إزاء القضية بعد قمة هلسنكي، دعت وزارة العدل الأميركية، أمس، إلى مقاربة موحّدة من أجل الحؤول دون أي تدخل في انتخابات منتصف الولاية التي ستجرى في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وخلال عرضه تقريراً أعدته فرقة عمل تابعة للوزارة ومكلفة محاربة الجرائم الإلكترونية، قال نائب وزير العدل، رود روزنستين، أمام منتدى أمني في مدينة آسبن بكولورادو، «ما الذي يمكننا القيام به من أجل الدفاع عن قيمنا إزاء الجهود الأجنبية للتأثير على الانتخابات وإضعاف نسيج المجتمع وجعل الأميركيين ينقلبون ضد بعضهم البعض؟». وأضاف روزنستين: «على غرار الإرهاب والتهديدات الأخرى للأمن القومي، يتطلب التأثير الأجنبي الخبيث مقاربة استراتيجية موحدة من قبل كل الهيئات الحكومية».