وتشير الوثيقة (الرابعة منذ عام 1997) إلى خطر توسّع «حلف شمال الأطلسي» والولايات المتحدة الأميركية، على أمن البلاد القومي، ما أثار بعض القلق في الإعلام الغربي، برغم أن الموقف ليس جديداً. ولعلّ ما دفع موسكو إلى التذكير بهذا الموقف هو سعي «الأطلسي» مؤخراً إلى ضمّ الجمهورية اليوغوسلافية السابقة، الجبل الأسود، إلى صفوفه.وتعليقاً على الوثيقة، عنونت صحيفة «فاينانشل تايمز» أنّ «روسيا تسمّي الولايات المتحدة والناتو خطراً على أمنها القومي، للمرّة الأولى»، ورأت أن ذلك «دليل آخر على التدهور الذي أصاب علاقة روسيا بالغرب».
وتتفقّ هذه النظرة مع ما جاء على موقع «بلومبرغ فيو»، حيث اعتبر الكاتب ليونيد برشيدسكي في مقالٍ بعنوان «بوتين يجعل انعزاليته رسميّة» أنّ هذه الوثيقة «هي دليل على مزيدٍ من انعزالية فلاديمير بوتين»، معتبراً أن الكرملين «مصاب بجنون الارتياب». لكن ما جاء في وثيقة 2016 لا يتعدّى كونه إعادة تأكيد على وثيقة 2009، التي رفضت فيها روسيا أيضاً توسع «الأطلسي» بالقرب من حدودها.
إنّ تشديد روسيا على موقفها من الغرب نابع من الدور الذي لعبته دول غربية في الأزمة الأوكرانية، عبر دعم الانقلاب الذي أطاح بالحكومة الموالية لروسيا في عام 2014. وقد أشارت الوثيقة إلى قلق روسيا من تدخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أوكرانيا، الهادف إلى «إحداث انشقاق كبير في المجتمع الأوكراني». وتشرح بوضوح أنّ «الثورات الملوّنة» في المحيط الروسي تهدّد السيادة الروسية، خاصةً في أوكرانيا، وسط «تغذية الإيديولوجيا القومية المتطرفة لإظهار صورة روسيا على أنها العدو في عقول المواطنين الأوكرانيين». وتضيف أنّ استخدام الوسائل العسكرية ممكن للدفاع عن الأمن القومي الروسي، إنّما «عندما تفشل الوسائل الأخرى في إزالة التهديدات».
ويتفقّ هذا الموقف مع العقيدة العسكرية الروسية الجديدة، التي صدّق عليها الكرملين في كانون الأول من العام الماضي. وقد ورد فيها أنّ «العدو الأول الخارجي لروسيا هو توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً باتجاه الحدود الروسية»، وتعتبر أن «خطة الولايات المتحدة لنشر الدرع الصاروخية في أوروبا على مقربة من الحدود الروسية مصدر قلق للأمن القومي الروسي». ويأتي تأكيد الاستراتيجية على أنّ الخطر الناتج عن التدهور في أوكرانيا هو «خطر طويل الأمد»، خصوصاً في ظل الخطوات التي اتخذها «الأطلسي» في دول البلطيق، عبر نشر جنود وقواعد عسكرية فيها، إضافةً إلى قواعد في بولندا ورومانيا.
وتنبع أهمية شرق أوروبا بالنسبة للأمن القومي الروسي لارتباطه أيضاً بخطوط إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، العنصر الأبرز في الاقتصاد الروسي. ويظهر ذلك كون الاقتصاد عنوان بارز في الاستراتيجية الروسية، بدءاً بوثيقة عام 2009، حتى اليوم، خاصةً مع التدهور الأخير الذي أصابه بسبب انخفاض أسعار النفط والعقوبات الغربية على أثر الأزمة الأوكرانية. وفي إطار تعزيز اقتصادها، تسعى روسيا، كما ورد في الاستراتيجية، إلى العمل على تطوير تعاونها مع شركائها في مجموعة «بريكس» (على الصعيد الاقتصادي)، وغيرها من المجموعات الإقليمية. ووضعت أولوية سياستها الخارجية في علاقتها مع بلدان «رابطة الدول المستقلة» وأبخازيا (حيث تنتشر الفرقة السابعة الروسية وقوامها ٤٠٠٠ جندي روسي)، وأوسيتيا الجنوبية.
لا تخرج هذه المعطيات إذاً عن ما ذكره بوتين حول أسباب تعديل استراتيجية الأمن القومي، في تمّوز الماضي، حين أشار إلى أنّ ضرورة التعديل سببها مواجهة التحديات والأخطار والضغط الخارجيّ، وهي عوامل تأتي كنتيجة للنهج المستقلّ المتبع في سياسة روسيا الخارجية، وحفاظها على سيادتها. ولام بوتين يومها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين مدّدا العقوبات على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، موضحاً هذه النقطة بأنه «لا يوجد ما يسمح لنا بأن نعوّل على تغيير النهج غير الودي من قبل بعض منافسينا الجيوسياسيين في المستقبل المنظور». من هنا، شدّدت الوثيقة على نظرة موسكو للنظام العالمي، حيث ترى أنه يجب أن يكون نظام مستقر وراسخ للعلاقات الدولية، يستند إلى القانون الدولي ومبادئ المساواة والاحترام المتبادل وحل الأزمات الدولية والإقليمية بطرق سياسية، عنصره المركزي الأمم المتحدة.
وفي مقابل التأكيد على التهديد من الغرب ورفض منطق «الكتل العسكرية»، جرى التأكيد على براغماتية السياسة الروسية، وعدم رغبتها بالدخول في سباق في التسلّح، وسعيها إلى فتح أبواب التعاون، ولكن ترتبط بمدى استعداد «الأطلسي» لأخذ «المصالح الشرعية لروسيا في عين الاعتبار واحترام القوانين الدولية».
ومع ذلك، فقد حذّرت الوثيقة من زيادة عمليّات إسقاط «الأنظمة السياسية الشرعية وإثارة اضطرابات ونزاعات داخلية، مع تحوّل الأراضي التي تستعر فيها هذه النزاعات إلى قواعد لانتشار الإرهاب والنعرات القومية والطائفية وغيرها من مظاهر التطرف». ورغم أنّ الاستراتيجية لم تذكر سوريا أو الشرق الأوسط بشكلٍ صريح، إلّا أنها حمّلت ازدواجية معايير «بعض الدول» في مكافحة الإرهاب مسؤولية ظهور «داعش»، والسماح له بتعزيز نفوذه، في إشارةٍ إلى تركيا بالدرجة الأولى.
في المحصلة، يمكن القول إن استراتيجية الأمن القومي الروسي المحدّثة لا تختلف بشكلٍ جوهريّ عن استراتيجية عام 2009، إنّما تلخص التطورات التي حصلت، منذ الأزمة الأوكرانية حتى اليوم، والأداء الروسي إزاءها، خصوصاً مع تأكيد روسيا من خلالها بعدم سماح تدخل «الأطلسي» في محيطها. لكن، مع بقاء أبواب التعاون مفتوحة، لا يمكن توصيف هذه الوثيقة بمثابة الإعلان عن ما يشبه حرباً باردة جديدة.