إذا كان عام 2002 قد شكّل نقطة تحوّل في تاريخ «إخوان تركيا» بفوز حزب «العدالة والتنمية» بالانتخابات البرلمانية بأغلبية خوّلته تشكيل الحكومات المتعاقبة، فإن حزيران 2016 يعتبر تاريخ إعادة إحياء الحزب، الذي وجد زعيمه الأوحد نفسه مرغماً على الاكتفاء بالنظام الرئاسي، بدلاً من أحلام «السلطنة».كان أول تصريح لرئيس الوزراء التركي ورئيس حزب «العدالة والتنمية» الجديد بن علي يلدرم، بعد توليه المنصب خلفاً لأحمد داوود أوغلو، «سنزيد من عدد أصدقائنا ونقلّل من عدد أعدائنا»، بمثابة كلمة سر إطلاق المرحلة الواقعية في السياسية التركية، التي اتسمت في خلال الأعوام الستة الماضية بالسريالية.
تركيا، اللاعب الرئيسي في القضايا الكبرى المتعلقة بالشرق الأوسط خصوصاً، والعالم الإسلامي عموماً، والتي حازت المقعد المؤقت في مجلس الأمن الدولي، عام 2009، بـ25 صوتاً (اعتبر انتصاراً للسياسة التركية في حينه)، باتت بعد 6 أعوام فقط شبه معزولة. وهي كانت قد فشلت في اجتياز الامتحان ذاته، عام 2014، رغم أنها خاضت الانتخابات في المرتين بالحكومة نفسها، وذات الشخصيات السياسية الفاعلة، لكن مع تناقضات كبيرة في السياسة المنتهجة.
وصل الفشل السياسي الخارجي التركي المتلاحق إلى ذروته، مع إسقاط الطائرة الروسية. فبعد معاداة دول الجوار، في كل من سوريا والعراق (باستثناء الإقليم الكردي) ومصر ــ السيسي، وعدم إحراز أي تقدّم في المصالحة مع أرمينيا، رغم توقيع اتفاقية زيورخ، إضافة إلى استمرار الاضطرابات السياسية مع اليونان، جاءت حادثة الطائرة الروسية لتعلن بدء الحصار السياسي لأردوغان وعصر التراجع الاقتصادي، بخسائر قُدرت بـ11 مليار دولار في خلال 6 أشهر. ولم تنجح سياسة الابتزاز التي انتهجها السلطان مع الاتحاد الأوروبي في رد الاعتبار لتركيا سياسياً ومادياً، بل على العكس جاء قرار البرلمان الألماني بالاعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية بمثابة «كف الاستفاقة» وتحذير من «اللعب مع الكبار».
إذاً، كان لا بدّ من العودة إلى البراغماتية الأتاتوركية، في تراجع كان داوود أوغلو أولى ضحاياه، وسط توقعات بأن «يجر الحبل» أسماءً فاعلة أخرى، في محاولة لإعلام الرأي العام والدولي بوجود حملة ضد «صقور إخوان تركية» و«المسؤولين عمّا آلت إليه الأحوال السياسية».
وعلى الفور، بدأت وسائل الإعلام التابعة والموالية للسلطان بنشر التسريبات تباعاً، معلنة عن «تكويعة» في السياسة التركية، في محاولة لبث الارتياح في الأوساط الاقتصادية الضجرة من سوء الأوضاع. «بشارة» الانعطافة كانت قد بدأت مع الصحافي التركي إبراهيم قره غول، المعروف بقربه من حزب «العدالة والتنمية» في مقال في صحيفة «يني شفاك» الموالية والممولة من الحزب، فقد تحدث عن تغيّر في السياسة التركية تجاه روسيا وسوريا بشكل خاص.
لكن رغم محاولات الإعلام الموالي للنفخ في بوق «الانتصار السياسي» لأردوغان، إلا أنها لم تتمكن من الإجابة عن السؤال الجوهري المتمثل بـ«لمَ المماطلة وتحمّل كل هذه الخسائر، إن كانت النتيجة ذاتها منذ البداية؟». ولم تختلف مواقف الإعلام المعارض، على ندرته، بشأن ضرورة إعادة إحياء العلاقات السابقة مع الجوار والبعيد، مع التشديد على عبثية نهج الحكومة التركية، في السنوات الماضية، وما «سبّبته المواقف العاطفية من خسائر على المستويين السياسي والاقتصادي» للبلاد.
إذاً، فشل أردوغان في فرض إرادته، ذلك أن إسرائيل التي أعلنت منذ 2013 قبولها شرطين من أصل ثلاثة وضعها أردوغان، منذ حادثة «مرمرة»، وهما الاعتذار والتعويض المالي لعائلات الضحايا العشرة، مقابل رفضها فك الحصار عن قطاع غزة، نالت ما أرادته. وقد بقي القطاع محاصراً في ظل المصالحة، رغم «الفتوى» التركية بمكاسب إدخال المساعدات من طريق ميناء أشدود الإسرائيلي، وزيادة عدد ساعات التزويد بالكهرباء، وما إلى ذلك من الحلول الجزئية القائمة أصلاً منذ أول يوم للحصار، لتنطلق يوم الجمعة سفينة مساعدات تركية باتجاه ميناء أشدود، أي كما كان الحال قبل «حادثة مرمرة».
كذلك، نُفذت المطالبات الروسية بالاعتذار والتعويض ومحاكمة قاتل الطيار، مع اللعب على الكلمات التي تضمنتها رسالة أردوغان، من قبيل «نعرب عن أسفنا، والمضي في الإجراءات التي تخفف من مأساة عائلة الطيار، والمتهم بالقتل مطلوب للعدالة...».
لكن نجاح السلطان، رغم خسارته لمواقفه، جاء عبر إيقاف النزف الاقتصادي والشلل السياسي للحكومة، التي كانت شعارات الرخاء والسيادة أهم مفاتيح فوزها لسنوات مضت.
ولم يبقَ أمام الرئيس التركي في رحلة العودة 6 سنوات إلى الوراء سوى معضلتين: المصرية، بإعادة العلاقات مع السيسي الذي وصفه يوماً بـ«الديكتاتور» وطالب المجتمع الدولي بمقاطعة «نظامه الانقلابي»، ليتفاجأ لاحقاً بفوز مصر بمقعد مجلس الأمن الدولي المؤقت في الأمم المتحدة.
أما في ما يخص الملف السوري، فإن خطاب الرئيس بشار الأسد الأخير في مجلس الشعب السوري، كشف استحالة العودة إلى فترة «شهر العسل» في العلاقات، على الأقل في المستقبل القريب، لتبقى سوريا ميدان تجربة مدى نجاح التفاهم الروسي التركي بشأن الملف جوهر الخلاف، بعد إيعاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكومة الروسية بالبدء بإجراءات إعادة العلاقات مع تركيا، غداة الاتصال الهاتفي بينه وبين أردوغان ظهر يوم الأربعاء.
بهجة العيد في تركيا جاءت قبل موعدها، وسط توقعات بانتعاش الاقتصاد، ولا سيما في المجالين السياحي والإنشائي، مع ارتفاع في البورصة وقيمة الليرة التركية، فيما لا تزال القضية الكردية والاهتمام الأميركي بأخوة الأمس وأعداء اليوم، الهاجس الأكبر بالنسبة إلى السلطان، الذي لم يعلن بعد متى ومن أين يبدأ بتقديم التنازلات فيه.