نتيجة تعدد العوامل الدافعة إلى تبني خيار «الخروج»، وتمايز المصالح والرؤى عند الأفراد والشرائح الاجتماعية التي اتخذت هذا الخيار، من الطبيعي أن لا يكون معسكر الـ«بريكست» تياراً متجانساً، لجميع مكوناته الدوافع والأهداف نفسها. ومن الطبيعي أن الظاهرة الموضوعية الواحدة يراها مختلف الأطراف بمنظورات متمايزة، وأن الحقيقة تلك لا تلغي الوجود الموضوعي للظاهرة، والتي هي، في الحالة التي نتناولها، انتفاضة القسم الأكبر من البريطانيين ضد النخبة الحاكمة، البريطانية أو الأوروبية ــ المعولمة، وسياساتها التي أدت إلى ظاهرة الهجرة، والمزيد من الإفقار وتركّز الثروة، وغربة المدن الكبرى (المراكز المالية والخدماتية) عن سائر أنحاء البلاد.
صوّت البريطانيون ضد اتحاد غير ديموقراطي ومصدَر للظلم الاجتماعي
كانت الهجرة الدافع الأكبر لخيار «الخروج» البريطاني من الاتحاد الأوروبي. يحمّل جميع أنصار هذا الخيار لندن وبروكسل المسؤولية عن هذا «التهديد»، وإن فعل ذلك كل وفق منطقه الخاص. فيما لا تبحث أحزاب وقوى اليمين في أسباب هذه الهجرة، بل تدعو فقط إلى إيقافها، يرفع البعض الآخر الصوت عالياً، محمّلاً المسؤولية عن الهجرة للسياسة التوسعية التي انتهجها الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث أُنفق الكثير من المال لضم دول شرق أوروبا إلى الاتحاد، في سبيل قضم مناطق النفوذ الروسي، ونقل حدود حلف شمال الأطلسي إلى الحدود الروسية مباشرة. نتج من ذلك انتقال الكثير من البولنديين وغيرهم من الأوروبيين الشرقيين إلى المملكة المتحدة، مثيرين ردود فعل عنصرية واسعة تجاههم، حمّلتهم المسؤولية عن الأزمات الاقتصادية، وفق التقليد اليميني الشهير. وحصل ذلك قبل الحروب «الأطلسية» التي خاضتها أوروبا أخيراً إلى جانب الولايات المتحدة، ضد أفغانستان وليبيا وسوريا، والتي أدت إلى تدمير تلك البلدان وتشريد الكثير من أهلها، مولدة موجة جديدة ضخمة من الهجرة إلى أوروبا.
في هذا السياق، يشير الكاتب الصحافي والسينمائي الأوسترالي، جون بيلغر، إلى خطاب للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ذكرى الاجتياح النازي لروسيا، شبّه فيه الحشود «الأطلسية» على الحدود مع بلاده بالحشود النازية هناك عام 1939. وفي مقاله المنشور على موقع Counterpunch في 24 من الشهر الجاري، يشير بيلغر أيضاً إلى تحذير الأمين العام لحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، البريطانيين من أن تركهم الاتحاد الأوروبي يهدد «السلام والأمن»، قائلاً إن «الملايين الذين تجاهلوه (ستولتنبرغ) و(رئيس الوزراء البريطاني دايفيد) كاميرون و(وزير المالية جورج) أوزبورن و(زعيم حزب العمال جيريمي) كوربن و(الرئيس الأميركي باراك) أوباما، والرجل الذي يدير بنك إنكلترا، ربما كانوا قد سددوا ضربة لأجل السلام الحقيقي والديموقراطية في أوروبا».
كذلك، فإن البريطانيين صوتوا ضد «اتحاد أوروبي غير ديموقراطي في أساسه، ومصدَر للظلم الاجتماعي ولتطرّف شرس معروف باسم النيوليبرالية»، وفقاً لبيلغر الذي يشير إلى أن هذه الأيديولوجية الاجتماعية ــ الاقتصادية أدت مثلاً إلى رمي «أكثر من 600 ألف من سكان ثاني أكبر مدينة بريطانية، مانشستر، إلى الفقر المدقع»، أسوة بملايين البريطانيين في سائر أنحاء البلاد.
ويرى أستاذ السياسة الاجتماعية المقارنة في جامعة أوكسفورد، البروفيسور مارتن سيليب ــ كايزر، أن «الاستفتاء البريطاني، في صلبه، لم يكن حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بل عن كيفية تعامل البلاد مع ضمور الصناعة والحرمان وإحدى أعلى مستويات انعدام المساواة في أوروبا». يشرح سيليب ــ كايزر أن «الكاينزية المخصخصة»، أي سياسة تحفيز الطلب عبر تعزيز الإقراض، بدل إعادة التوزيع والاستثمار في مشاريع عامة تخلق فرص العمل، «ساعدت على إخفاء التصدّعات الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا في الجزء الأكبر من التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي... وبعدها أتت سنوات التقشّف، التي ألحقت أكبر الضرر بالمجتمعات التي كانت الأكثر تضرراً من ضمور الصناعة».
ولم تكن النخبة الحاكمة في بريطانيا تغرّد خارج السرب الأوروبي، باتباعها السياسات التي أنتجت هذه النقمة الشعبية عند سكان «الأطراف» خاصة، أو سائر مناطق البلاد خارج المدن الكبرى المحظية بمنافع النموذج النيوليبرالي المعولم. وعليه، فإن «النخب التي تجري معارضتها هي بالضبط تلك التي تدعم القيم الأساسية ومؤسسات النظام الغربي الليبرالي المعولم»، يقول مدير برنامج دراسة العلاقات عبر الأطلسي في جامعة هارفارد، مانويل مونيز، في مقال نشره موقع Europe's World أول أمس. والسبب في ذلك، وفقاً لمونيز، هو «تداعيات العولمة والتجارة الحرة والهجرة»، وبشكل خاص، التطور التكنولوجي الذي «قوّض الطبقة الوسطى عبر القضاء على الوظائف»، حيث زادت إنتاجية العمل منذ السبعينيات، دون أن ترتفع الأجور، ما أدى إلى وصول تركّز الثروة إلى «مستويات دراماتيكية».
نتيجة لكل ذلك، بات «البرابرة على الأبواب»، مهددين هذا النظام المعولم، يخلص مونيز، بما يجعل الحاجة ملحة لإعادة النظر في هذا النظام، بحيث ينتج «مستوىً مستقر سياسياً من اللامساواة»!