يحضر طيف نذير إسماعيل (1948- 2016) اليوم، محمولاً على ذاكرة لونية ثريّة بالإحالات، ليتفقّد أحوال كائناته العزلاء بعد ثلاث سنوات من غيابه. سوف يتجوّل معنا بين جدران غاليري Art on 56th في الجميزة في بيروت، ضمن معرض استعادي يلخّص تجربته الطويلة التي تمتد إلى نحو خمسة عقود. فرصة استثنائية للتعرّف إلى المحطات التي عبرها هذا التشكيلي السوري العصامي، وصولاً إلى بصمته الشخصية النافرة في تاريخ المحترف السوري. محطتان أساسيتان قادتا الطفل الدمشقي اليتيم إلى سحر اللون: مشغل للبسط اليدوية كان يقيم بجواره. هناك كان الطفل يجمع بقايا خيوط الصوف المهملة وينقعها في كأس مملوءة بالماء ثم يتأمل تسرّب اللون إلى الماء. في حي باب الجابية، قبالة بيت جدّه، اكتشف سحراً آخر للألوان، عنوانه «أبو صبحي التيناوي». دكان صغير كان يشغله الرسّام الشعبي الذي اشتهر برسم السير الشعبية على الزجاج: «كنت أقف متأملاً تلك الرسوم بدهشة، وكيف كان أبو صبحي لا يتوانى عن وضع ذيل حصان عنترة، أو سيف الاسكندر ذي القرنين خارج الإطار، إذا لم تكفه رقعة الزجاج التي كان ينقش شخصياته فوقها».
من دون عنوان (مواد مختلفة على كانفاس ـ 46 × 60 سنتم ــ 2004)

هكذا اختزن باكراً قدرة الخيال على تحطيم واقعية الصورة، وكيفية تجاوز متطلبات المنظور، والإصغاء إلى انفعالاته الذاتية وحسب، خصوصاً بعد اكتشافه، أثناء وجوده في الميتم وتجواله في شوارع دمشق، وجود حياة أكثر تنوعاً وحيوية، فقرّر أن يصبح رسّاماً. انتقل في شبابه المبكّر إلى بيروت الستينيات، فاكتسب وعياً آخر بتأثير التيارات المتلاطمة في هذه المدينة الصاخبة، رغم فشل معرضه الأول. اتجه إلى صيدنايا محاولاً توثيق نداء الصخور وخطاب الطبيعة، ورائحة التراب، ثم اقتحم طاولة فاتح المدرس في مقهاه الأثير طالباً النصح. لم يخذله التشكيلي الرائد، فقد نصحه بأن يرسم بالأبيض والأسود أولاً، لينخرط سنوات عدّة في رسوم الفحم، قبل أن يهتدي إلى فضاء التعبيرية الذي وسم المحترف السوري حينذاك. تعلّم نذير إسماعيل تقنيات الرسم في معهد الفنون التطبيقية في دمشق، ثم في «معهد أدهم اسماعيل»، لكنه سيهجر قائمة الوصايا ليلجأ إلى اكتشافاته الشخصية في مزج الألوان، بخلائط محليّة، بما فيها الكحل العربي، وأوراق الجرائد، وتراب حوران.
عند هذا المنعطف، سينخرط بمغامرة جديدة، هي رسم البورتريه، هذه المغامرة التي سترافق تجربته إلى النهاية بتنويعات مختلفة.

من دون عنوان (مواد مختلفة على ورق ـ 56 × 76 سنتم ـ 2013)

وجوه تبدو للوهلة الأولى، متماثلة، لكنّ فحصاً دقيقاً لتعبيريته التشخيصية، سيضيء مواقع الاختلاف بين عملٍ وآخر، تبعاً لمخزونه الشخصي، فهذا المشّاء لن يعدم مشهديات إضافية، كما لو أنه يؤرشف شريطاً بصرياً بما ينقصه، في محاولات دؤوبة لاستعادة الهوية الأولى للأثر، وتعاقب الأزمنة والبشر على المكان الواحد. اهتدى في سنواته الأخيرة إلى مرسم في حي الأمين، كان مشغل خياطة لشخص يهودي، ثم شغله خياط فلسطيني بعد النكبة الأولى. هذه المفارقة قادته لأن يفتش عن أرواح بشر وطئوا هذا المكان، وتركوا ذكرى ما، تنهيدة، أو كتابة على الحائط، أو أثر أقدام على البلاط. هذه العلامات اللامرئية هي ما يمثل عناصر لوحته في حفرياتها ورصدها تضاريس الوجوه. وتالياً، فإن اشتغالاته لا تعتني بما يلفظه السطح بقدر غوصه في العمق، فلكلٍ من كائناته الشبحية أوهامها وآمالها ومخاوفها، مشكّلاً مفكّرة ضخمة للتراجيديا الإنسانية، أو متحفاً للوجوه المتعبة والمخطوفة والمذعورة، في تجاورها وتنافرها. وجوه طولانية، وأخرى مقلوبة بلا ملامح واضحة، تتكئ على الفكرة التي تدور في الرأس أكثر من اعتنائه بالتزيين. ذلك أن نذير إسماعيل يطيح معالم الوجه بضربات شاقولية ملغّزاً معنى العزلة والوحشة والعنف في عالم فقد توازنه. وتالياً فإن حيادية هذه الوجوه تنطوي على احتجاج ما، حيال ما آلت إليه مصائرها الفجائعية.
انخرط لسنوات في رسوم الفحم، قبل أن يهتدي إلى فضاء التعبيرية الذي وسم المحترف السوري حينذاك


ألوان داكنة، وأخرى نارية لتلخيص انفعالات متراكمة تحيل إلى شجن تاريخي يؤرخ هويات مستلبة ترفض الإذعان أو الاندحار رغم انكساراتها المتعاقبة، والهوة التي انحدرت إليها تحت وطأة القسوة. وجوه معذّبة بعيون مطفأة، لكننا لن نعدم نظرة تحدٍّ، كإشارة صريحة للمواجهة التي لا تخلو من مسحة صوفية خافتة. في لحظةٍ ما، ستداهمنا فكرة أخرى حيال هذا الركام من الوجوه، ذلك أن عملية المحو المستمرة في الطبقات اللونية المشبعة تأتي من باب البحث عما غاب عنها في عملٍ سابق، بقصد ترميم عطبٍ ما، أصابها في الجوهر، كمن يحمل صخرة سيزيف على كتفيه بأمل الخلاص. هنا سيحضر معلمه الأول أبو صبحي التيناوي الذي ما انفك يعيد رسم عنترة وعبلة طوال حياته، من دون كلل، لكن «عنترة» نذير إسماعيل عاشق خائب بسيف مكسور وأحلامٍ مجهضة، كأن على رأسه الطير. ربما كان رهانه المضمر يتعلق بتطور معالجاته التقنية ومغامرته المستمرة في الاشتباك مع مواد مختلفة بما فيها السكّر والشامبو، لن يتردّد في استخدامها لإكمال دائرته المحليّة في موازاة المواد المستخدمة في العمارة الدمشقية القديمة، من دون أن يهمل معطيات الأيقونة المحليّة مستبعداً طغيانها المقدّس، في احتدامٍ شرس ومحاكمات لونية جريئة بلا ضفاف، مستنيراً بعبارته اليقينية التي ما انفك يردّدها على الدوام «أخشى الجملة البصرية المستقرّة».

* معرض استعادي لنذير اسماعيل «35 عاماً»: 19:00 مساء اليوم حتى الأوّل من حزيران (يونيو) المقبل ــ غاليري Art on 56th (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: 01/570331