لندن | في الوقت الذي تغرق لندن من جديد في بحر حروب الهويّات والأعراق، وتستأثر موجة الفاشيّات الشعبويّة المستعادة من ظلاميّات القرن العشرين بالحدث وما بعد الحدث، تبدو استعادة شخصيّة الفنان مايكل جاكسون (1958 – 2009) من قبل «متحف البورتريهات الوطنيّة» في معرضه الرئيسي لهذا الصيف وكأنها مساهمة أخرى في الجدل الدّائر أكثر منها احتفاء بالذكرى الستين لولادته. فمن بين كل الفنانين الأفرو- أميركيين الذين ظهروا بعد اندثار حركات الحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة بدءاً من السبعينيات، يُذكر جاكسون بصفته الوجه – الأيقونة الذي تختصر فيه كل تناقضات ذلك الجيل الطالع في ظل هزيمة قاسية تعرض لها جيل المناضلين الرّواد، «فكأن كل الشيزوفرينيا، وكراهيّة الذات والالتباس والنفاق وتاريخ العنف التي طبعت حياة السود في أميركا تجسّدت في رجل واحد» على حد تعبير الروائيّة زادي سميث. تلك التناقضات التي سجلّها جاكسون عبر رفضه قبول لون بشرته، أو مرحلة عمره أو حتى حدود قدرة الجسد على تقديم الإيقاع، ومن ثمّ صياغته لصورته في المخيال الجمعي وفق تصوره الذاتي عن العالم... كلها جعل منه فكرة أكبر من الحياة تتجوّل كقمر تائه في فضاء ما بعد الهويّات المعولم: جرم قاحل غارق في السواد يخوض نزاعاً أبدياً لاكتساب لون آخر نقيض، فيتحوّل وجهه في كل وقت، أكثر منه مايكل جاكسون الإنسان الضئيل البائس.
بورتريه لمايكل جاكسون ـ كاوس (2009)

المعرض الذي انتقل من لندن وحطّ أخيراً في باريس تحت عنوان «مايكل جاكسون على الجدار»، يستدعي أوجهه العديدة تلك من خلال قراءة صوره التي تركها في ذهن جيل الفنانين المعاصرين على تنوع مدارسهم وتعدد أدوات تعبيرهم بعدما تحوّلت ملامحه - ربما بداية من لوحة أندي وارلهول (1984) - إلى خطوط أيقونة بصريّة صارت رمزاً أو علامة ثقافيّة على تلك المرحلة من التاريخ التي شهدت انتصاراً شبه تامٍ للنيوليبراليّة، وتفوقاً بدا نهائيّاً للصورة على المضمون، وانتشاء مرضيّاً بفكرة العالم الواحد والقرية الكونيّة.
جاكسون الذي ترك بصمات لا تنسى على ثقافة تلك المرحلة في الموسيقى وكليبات الغناء والرقص والتعبير بالجسد والأزياء، كأنه يعلن من خلال هذا المعرض أنه حقق مروراً باهراً كذلك في مساحة الفنون البصريّة الحديثة التي نجحت لندن للمرة الأولى في استعراض نماذجها الأهم على صعيد واحد بالاستعانة بمجموعات عامة وخاصة عديدة.
«كأن كل الشيزوفرينيا، وكراهيّة الذات والنفاق وتاريخ العنف التي طبعت حياة السود في أميركا تجسّدت في رجل واحد»


يمكن لزائر المعرض بالطبع أن يتوقف مطولاً أمام أي من اللوحات المعروضة في الصالات الثلاث التي خصصت للمعرض، فيرى وجهاً آخر للفنان – الأيقونة، لكن تجربة المشاهدة لن تكتمل قبل أن يعبر الزائر من أمام كل اللوحات التي لا تشبه واحدة منها الأخرى لا في طريقة التعبير ولا في الطراز الفنيّ ولا حتى في الألوان. إذ عندها فقط يمكنه أن يلمس الأيقونة التي تعجز اللوحات المنفردة عن الانفراد بتقديمها. وحتى تلك الأيقونة المشغولة بعشرات القطع الملونة تبدو مع ذلك أقل سطوعاً من جاكسون – الفكرة والتصور في ذاكرة الجيل.
على رغم كل الانتقادات الشديدة اللهجة التي وجهّها بعض المثقفين الأفرو ـ أميركيين لـ «ملك البوب» كنموذج للأسود المكسور «الذي يمكنه أن يقبل بموته مقابل أن يكتسب بشرة بيضاء»، بقي الفنان الضئيل الجسد محبوباً على نطاق واسع، لا سيما في أوساط فئة شبّان الأقليّة السوداء في الولايات المتحدّة التي رأت فيه أسطورة النجاح الفردي الممكن للإنسان الأسود في أميركا بعدما تعطلّت كل محاولات النهوض الجماعي بفعل سياسات قمع ممنهج مارستها السلطات الأميركيّة ضدّهم عبر العقود، وانتهت بنخبتهم مقتولة أو مسجونة أو مستسلمة للهزيمة.

«بورتريه الملك فيليب 2» (2009) لكيهيند وايلي

لا يمكن في الحقيقة فهم تلك الشعبيّة الجارفة لجاكسون – الأيقونة بين الجيل الجديد من الأميركيين السود تحديداً بمعزل عن قراءة النسق الاجتماعي الذي انتهت إليه طليعتهم المناضلة بعد الحرب الأميركيّة عليها. إذ إن جيل الثمانينيات الذي تناهت إليه قصص نضالات حركة الحقوق المدنيّة العابقة بالنوستالجيا المثاليّة والإنجازات الرمزيّة في الخمسينيات والستينيات، كان يلمس بيديه كيف أن لا شيء تغيّر فعلاً بالنسبة إلى الأميركي الأسود، إذ بقي فقيراً مهمشاً معزولاً عالقاً في دائرة لا فكاك منها من إعادة إنتاج الفقر والعنف والتجهيل. لقد دفعت النخبة السوداء المناضلة أثماناً باهظة على الصعيد الفردي ذهبت كلها هباء منثوراً، فقتل كثيرون، وشردت عائلاتهم وتركت لوحش الرأسماليّة الذي لا يرحم. ومن نجا منهم أودع السجن – وما زال بعض مناضلي «حزب النمر الأسود» الطليعي الذين طالت بهم الأعمار فيه إلى اليوم بعد أكثر من أربعة عقود منها عقد الرئيس أوباما المليء بالأوهام.

«مايكل جاكسون» (1984) لاندي وارهول

هذا الواقع السياسي – الاقتصادي القاسي أنتج الظاهرة الثقافيّة الأبرز بين شبّان الأقليّة الأفرو أميركية في مناخات اللايقين وما بعد الحداثة: «النجم القوّاد» أي ذاك الأميركي الأسود الذي يحقق نجاحاً فرديّاً محضاً رغماً عن النظام الرأسمالي ويشعر بامتلاك القوة من خلال ممارسة العنف كما قهر النساء ومعاملتهن كمواد أوليّة في صناعة تدرّ أمولاً طائلة لا تخضع للضرائب، ويستعين بقلادات الذهب الأصفر الثقيلة والخواتم الضخمة والملابس الملفتة والسيّارات الفارهة كرموز لإظهار مكانته الجديدة وثروته التي لا تشبه مجتمعه الغارق في البؤس اللانهائي.
جاكسون الفكرة – لا الإنسان – كان عولمة لهذا النموذج الذي أصبح في الأجواء النيوليبراليّة القاسية حلم خلاص ممكناً للشبان التائهين عبر الأعراق والجنسيات. فالمغني الذي أبدع We are the World، كان من دون شك يتحدث بمثاليّة حالمة عن إنسانيّة مشتركة، لكنها مثاليّة مغرقة في السّذاجة أقلّه بمقاييس الجدل السائد هذه الأيام حيث الهويّات المتناقضة تعلو على ما عداها.
جاكسون الفكرة كان عولمة لهذا النموذج الذي أصبح في الأجواء النيوليبراليّة القاسية حلم خلاص ممكناً للشبان التائهين عبر الأعراق والجنسيات


ربما هي ليست سذاجة جاكسون بقدر ما هي فقرنا الشديد في الخيال وحالة انعدام الجرأة حتى على تعاطي الحلم التي أسقطنا فيها الزمن الترامبي المظلم. أوجه جاكسون العديدة الموزعة «على الجدار» تذكار بصري مذهل عن ضحالة الهويّات التي نرتديها في مواجهة الآخرين، فكلها مستعارة وعابرة، ومجموعها عبر الأيّام يعجز دائماً عن وصف الفكرة وراء الإنسان. «مايكل جاكسون على الجدار» معرض استثنائي عن شخصيّة استثنائيّة في وقت استثنائي.