قبل سنواتٍ قليلة، اتصلت نادرة عساف بيولا خليفة لتخبرها بأنها تمنت لو ترقص على أغنيات ألبومها الثالث الصادر للتو في حينه. تحوّلت الأمنية سريعاً إلى مشروع مشترك بين الصديقتين اللتين انضمت إليهما ثريا بغدادي، فعمل «التريو»، وهنّ صديقات منذ زمن، بين باريس وبيروت على بلورة الفكرة. ثم تواصلن مع المخرج شادي الزين، ليضع رؤيته للعمل الذي تحوّل إلى عرضٍ مسرحي بعنوان «صوتي». للمرة الثانية في بيروت، تنطلق في مسرح «مونو» عروض «صوتي» مساء اليوم. سنكون أمام «نسخة منقحة» من عروض عام 2017 على المسرح نفسه. في مناخٍ من الحساسية العالية والشاعرية، وعلى وقع الموسيقى الحية التي يعزفها رامي خليفة مرافقاً للعرض، سيكون الجمهور على موعد مع عرضٍ مُهدى إلى المرأة وإلى «فكرة الأنوثة» عموماً، بحسب ما يؤكد القائمون عليه. تتحول الموسيقى والكوريوغرافيا في العرض إلى لغةٍ موحدة تحمل «الأنوثة» في متنها، بمعناها الواسع ومن منظور نساء في منتصف العمر. هذا العنصر أساسي في العمل، حيث كان دافعاً رئيساً وراء التفكير في المشروع ككل. توضح يولا خليفة في هذا الإطار، أن إحدى الأفكار الكبرى للعرض هي أنّ النساء لا تنتهي حياتهنّ مع وصولهن إلى عمرٍ معيّن. ليس صحيحاً برأي خليفة، أن النساء يقدّمن شيئاً في عمرٍ معيّن فقط ثم ينكفئن، وتؤكد أن العمل ممكن في أي سنٍّ شرط أن يكون هناك تعبير صادق.
نادرة عساف وثريا بغدادي في العرض

يدمج «صوتي» فنون العرض كلها، ويقارب موضوع المرأة بشكله الراهن، وبشكله التاريخي أيضاً. يحصل ذلك بشكلٍ شاعري، وبعيداً عن الخطابية أو التوجيه. حتى إن الحوار في العرض يكاد لا يذكر، حيث تطغى الموسيقى وحركة الأجساد. كما تلعب الإضاءة (هاغوب ديرغوغاسيان) دوراً أساسياً في إبراز الثيمات المطروحة وحالات اللاعبات الثلاث ومشاعرهن على المسرح. وبين الرقص الشرقي المعاصر الذي ستقدمه بغدادي والرقص المعاصر مع عساف، ستتماهى الأجساد مع نصوص يولا وموسيقى رامي خليفة. ويركز الزين على إيصال الأفكار بواسطة الحركة على المسرح وكيفية استعمال المساحة ضمن مناخٍ معاصر.
في «صوتي» المستوحى من أغاني يولا خليفة، بالإضافة إلى رقصات نادرة عساف وثريا بغدادي، لن نكون أمام قصةٍ متناسقة بل لوحات متسلسلة على وقع أغنياتٍ نسّقتها خليفة. تنطوي هذه الأغنيات على ثيمات عدة مثل الحب، الطفولة، الهجرة، الاغتراب. لكن هذه المواضيع ستكون مثل نغماتٍ مختلفة تُعزف على مقامٍ موحّد، هو مقام المرأة. تقول يولا خليفة التي بدأت مسيرتها الغنائية المستقلّة قبل عشر سنوات تقريباً، إن العرض القائم في الأساس على أعمالها الغنائية، يوصل، بالاشتراك مع عساف وبغدادي ضمن رؤية الزين، حياة الممثلاث وتجاربهن وخبرتهن.
في إحدى لوحات العرض، نرى خليفة تغنّي أغنيتها «قل لهم يا حب لمَ على السماء تقتتلون؟»، فيما تحيط بها مرايا تتماوج معها، لتعكس مع الضوء، أفكار الهوية والذات والآخر. في مشهدٍ آخر، تتركنا علاقة الإضاءة مع الظلّ أمام استعارةٍ معدّلة لقصة الخلق التوراتية، فتُظهر هذه اللعبة المرأة وقد خُلقت قبل الرجل، ثم نرى الرجل يخرج منها، لا العكس. إذاً بالإضافة إلى مواضيع راهنة ومتغيّرة، يرجعنا العرض إلى لحظات ثابتة ومفصلية في تاريخ مفهومي الأنوثة والذكورة، وإلى قصص تقع رمزيتها في صلب الثنائية الإنسانية. مع ذلك، يبقى العرض بعيداً كلّياً عن فكرة الهويات، بمعناها الجندري الصرف، إذ يقول الزين إنه وفريق العمل مهتمون باللغة الفنية والبحث عن الجمال، أكثر من العمل على معنى موحد.
يركّز الزين في عروضه عموماً على المرأة، جسدها، همومها وقضاياها، لكنه يضع ذلك ضمن همّ إنساني أشمل، بعيداً عن ضيق الهويات، رأينا ذلك في أعمالٍ سابقة له، آخرها عرض «مبسوطة أو مربوطة؟». يتزامن ذلك مع عمل الزين الذي يتركّز على النشاط «النفس ــ اجتماعي» القائم على علاج الأشخاص والعلاقات الاجتماعية بواسطة الفنّ. من هنا جاء تأسيسه جميعة «لبيروت» لإنتاج «الثقافة والفن والجمال في خدمة الإنسان». يؤكد المخرج الشاب أن قضية المرأة تعنيه كثيراً، وبأن العرض سيسلّط الضوء على جوانب وزوايا متعددة في حياة المرأة، فالمعاناة والفراق والإغواء على سبيل المثال، هي ثيمات حاضرة أيضاً.
يدمج فنون العرض كلها، مقارباً موضوع المرأة بشكليه الراهن والتاريخي بعيداً عن الخطابية أو التوجيه


في السياق نفسه، تتحدث ثريا بغدادي عن نشأة فكرة العرض وتقول إنها وصديقتيها الأخريين أردن في البداية تسميته «المرة الثانية»، لأنهنّ شعرن بأنهنّ يعشن حياةً ثانية لا سيما بعد الإنجاب وتربية الأولاد: «كل واحدة منا أرادت أن تقول شيئاً عن طريق مسيرتها». تشير مصممة الرقص والممثلة اللبنانية الفرنسية إلى أن الالتزام بقضية المرأة يتخذ منحى حميماً عند المشتركات في العرض، مع التفكير بالمرأة الشرقية وهمومها بشكل خاص، لكنه يشمل أيضاً هواجس أخرى ذات بعدٍ إنساني عام. «صعوبة العيش» على سبيل المثال، هي واحدة من الأفكار التي ستجسّدها بغدادي على الخشبة. هذه الصعوبة التي يختبرها أي إنسان يتمتع بحساسية عالية في زمنٍ يغرقنا بكمية هائلة من المعلومات بشكلٍ يومي، كما تقول. العرض يطال الإنسان ككل، تؤكد بغدادي. برأيها حتى عندما نتكلّم عن الأنوثة، فنحن نتكلم عن الرجل أيضاً الذي يمتلك جانباً أنثوياً هو مدعو دائماً إلى اكتشافه. من هنا، إن العرض لا يُقصي الرجل: «حين يصبح لدينا أبناء وأحفاد، تصبح الأشياء أكثر صفاءً، لأننا نراها مثلما هي في الطبيعة. في الطبيعة هناك توازن ممتاز بين الأنوثة والذكورة». مع ذلك، تبقى الأنوثة بالنسبة لبغدادي مساحة واسعة جداً، ومكاناً للخصوبة والتحوّل، وبواسطتها فقط «يمكن للمرء أن يتغيّر وأن يولد من جديد».

* «صوتي»: بدءاً من 20:30 مساء اليوم ــــ «مسرح مونو» (السوديكو ـ الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/421870