«كيف تكون ملاكاً أبيض؟يبقى ضميرك نص ضمير
تنصف حركات الحريّة
وتنسف حركات التحرير
وتوزّع عطفك وحنانك
ع المقتول حسب الجنسيّة
وتلك قضيّة... وتلك قضيّة».- أغنية «تلك قضيتي»، فرقة «كاريوكي».


عرفت أثينا ديموقراطيةً من طراز فريد في حياة مؤلّفها المسرحي الكوميدي الوحيد الذي وصلتنا أعماله- 11 مسرحية كاملة، وعناوين لـ40 مسرحيّة- أريستوفان الذي عاش بين 446 إلى 386 ق. م تقريباً. هكذا تقول المراجع، سيّما تلك التي تروي سيراً عن «المحكمة الشعبية» وجلسات «الإكليسيا» ومجلس «البولي» (الشورى) أو مجلس الخمسمئة ولجنة الخمسين وغير ذلك كثير.
كلّ هذا كان في عهد الحاكم بركليس الذي كُتِبت عنه مطوّلات في كتب التاريخ، مع ذلك لم يسلم من نقد أريستوفان له. ففي مدة حكم بركليس، كما يروي المؤرخ اليوناني بلوتارخ «بدت أثينا كأنها غانية فاتنة متزينة بأبهى الحلل والحلي». لا يعنينا من تلك المدة غير القانون الذي أصدره الحاكم بركليس، عام 451 ق. م، ومفاده أنّ الجنسية الأثينية تقتصر على الأبناء المنحدرين من أبوين كل منهما أثيني. مَن لا ينطبق عليه هذا الشرط، أو يُشكَّك في صحة نسبه، ليس بأثيني، ومعنى ذلك بكلمات أخرى: همجيّ أو بربريّ. فكلّ مَن لم يكن أثينياً وقتها، كان في أعين الأثينيين بربرياً وبدائياً، وفاقداً لشروط الأنسنة بالنسبة إليهم. هكذا أيضاً: كما تروي الكتب.


خلف بركليس بعد موته بالطاعون حاكم اسمه كليون، متطرّف من أنصار مواصلة الحرب ضدّ إسبرطة وغيرها، ومع التوسع الاستعماري وبناء إمبراطورية. يوصَف كليون بأنه غوغائي «يجيد الخطابة المثيرة لهياج الدهماء باستغلال استيائهم من الأوضاع، والتلويح لهم بما يتمنونه وتشتهيه أنفسهم، تدعيماً لمركزه ونفوذه السياسي». هاجم أريستوفان، الذي يُقال عنه إنه أعاد الروح إلى جسد أثينا ومنحها الثقة من جديد، كليون بشراسة. كما اعترف مفكّرون ومسؤولون بارزون في المجتمع الأثيني بقدراته الفائقة في مجال النقد الساخر. اعترف أفلاطون، على سبيل المثال، بأنّ هجوم أريستوفان على سقراط في مسرحيّته «السحب» ربما أسهم في محاكمة الفيلسوف وإدانته. في محاورته «المأدبة» يحلّ كلٌّ من سقراط وأريستوفان ضيفين على مائدة أفلاطون، ذلك بعد سنوات على عرض كوميديا «السحب»، ولم تكن بين الرجلين أي مشاعر عدائية، لكن مع ذلك لا شك في أنّ الرأي العام الذي تركته مسرحية «السحب» في المجتمع الأثيني، عبر تصوير سقراط زعيماً للسفسطائيين المذمومين ذلك الوقت، ورائد نهج «التعليم الجديد» المكروه بالنسبة إلى المحافظين من الناس، ظلّ حاضراً أثناء محاكمة سقراط الشهيرة في عقول الناس والمحلفين.
على أنّ أريستوفان، لم يترك ناحية من نواحي المجتمع إلّا وتعرّض لها: هاجم تجار الحروب ومحترفي السياسة، كما هاجم الأدباء والفلاسفة والسفسطائيين، والمتطفّلين والمتملّقين. ولم يقتصر هجومه على الأفراد، بل تعدّاهم إلى المجالس والهيئات ومناصب القضاء، وصولاً إلى المجالس النيابية والجمعية الوطنية (الشعبية) والمحاكم. مَن يقرأ التعليقات أو المقدمات التاريخية والأدبية المكتوبة عن أريستوفان، يقبض فوراً على الأثر الذي استطاع أن يتركه في بنية المجتمع الأثيني، ومحاكمة سقراط عبر مسرحية «السحب» تقف دليلاً على ما للفنّ من قدرة لا على الإحياء فقط، بل على إرسال فيلسوف إلى حتفه أيضاً. مع أريستوفان في «السحب» (أعظم مسرحيّاته وأروعها كما يقول بنفسه في البرولوغ) صارت الكتابة، بوصفها عمليّة خلق، إحياء، استحداث شيء من عدم أو استنهاض بستان من بذرة واقع... صار الخلق نفسه، يودي إلى الموت.
ليس أثراً فقط ما تركته «السحب»، بل رأي عام أودى بحياة فيلسوف تجرّع السم برضا بعد أن قال دفاعه أمام المحكمة. كان يمكن لسقراط أن يختار عقوبة أخرى غير الموت (كما يقتضي القانون الأثيني) بأن يُنفى مثلاً، لكنه رفض ذلك، واختار الموت على حياة خارج دياره التي أحبّها. هنا، مرة جديدة، يصبح الخلق الفني محدداً لمصير إنسانيّ من لحمٍ ودم. تصبح الكلمة فعلاً. ليس أيّ فعل، بل فعل موت. كان المسرح مع أريستوفان (والفن بشكلٍ عام) أداة زعزعة فإذاً، أداة رأي عام. ليس العرض المسرحي تحفة تُعرَض ثم تُعاد إلى الدرج، ليس جداراً ولا أعمدة مصفوفة في اليونان، إنما وعاء صغير من السم يتجرّعه رجلٌ ماضٍ إلى موته بعد محاكمة.
جدير بالذكر أنّ بين عرض مسرحية «السحب» ومحاكمة سقراط قرابة 25 سنة، بقي الأثينيون أثناءها متأثرين ومأخوذين بما قاله كاتبٌ مسرحيّ عن فيلسوف يسير في الشارع. خمس وعشرون سنة، ربع قرن، ظلّت صورة رجلٍ جُسِّدَت على المسرح محفورة في أذهان سكّان مدينة كاملة، عددهم تراوح وقتها بين 50 إلى 70 ألفاً. وتخبرنا المرويّات التاريخية عن محاكمات أثينا من هذا النوع، أي التي تقرّر مصير حياة إنسان، أنّ شرطها أن يكون عدد حضورها ومحلّفيها سُبع سكّان المدينة. ثمة محاكمة جرت في عهد بركليس، حين كان عدد الأثينيين 43 ألفاً، وصل عدد محلّفيها إلى ستة آلاف، لتحقيق الشرط. هذا، مما لا شك فيه، ينطبق على محاكمة سقراط. هنا، ليست المحاكمة حدثاً منفصلاً أو مفاجئاً. لقد حدثت قبل 25 سنة من حدوثها فعلاً. المحاكمة كانت مع «السحب»، وبعد ربع قرن تقريباً أخذت طريقها إلى الحياة الفعلية. لكنّ حجج الاتّهام والمحامي العام لأثينا كلّها موجودة في نصٍ مسرحي، وتسرّبت إلى عقول الناس حتى صارت حججهم أنفسهم. بالتأكيد لن ينتهي هذا الأثر الفني أو يتوقف عند أريستوفان، بل سينتقل دور التغيير والتفسير والتأثير مع الفن، أينما حضر في كلّ زمانٍ ومكان، ظالماً كان أم مظلوماً.
أثناء أعياد ديونيسوس الكبرى كان من المعتاد أن يحضر ضيوف أجانب ذوو مناصب رفيعة العروضَ المسرحية. أثارت مسرحية «البابيلون»، ثاني مسرحيات أريستوفان، غضبَ المسؤولين الأثينيين في ذلك الوقت، لأنها صوّرت مدنَ الحلف الأثيني عبيداً يعملون في طاحونة حبوب. هاجمها الحاكم الجديد، كليون، زعيم أثينا وقتها، فردّ عليه أريستوفان في مسرحيّة اسمها «الفرسان» وفي كوميديات أخرى كتبها. بطل «الفرسان» رجل اسمه ديموس (معنى الكلمة باليونانية: الشعب) وديموس هذا ترك أمور أسرته تحت رعاية عبد من بافلاجونيا (أي إنه أجنبي، غير أثيني) وكان يرمز عبره إلى كليون. يسيء استخدام سلطته، ويعذب الأبرياء ويسيء معاملة معارضيه. وجد كليون نفسه في تلك المسرحية، وفي مسرحيات أخرى كثيرة لأريستوفان.
كان بركليس من قبل، كما قلنا، قد أقرّ قانوناً مفاده أنّ الجنسية الأثينية مقصورة على الأبناء المنحدرين من أبوين كل منهما أثيني. مَن لا ينطبق عليه هذا الشرط، أو يُشكَّك في صحة نسبه، ليس بأثيني. بالتالي تسقط عنه أيّ حقوق كمواطن أثيني، ويُعامل معاملة الأجنبيّ، الهمجيّ. وكان قد شيع من قبل، وليس ذلك مؤكداً، أنّ لوالد أريستوفان ضيعة في جزيرة أيجينا، وهي غير أثينية، وقفت في صف إسبرطة، عدوة أثينا. وما يؤسف له، لم يسجل التاريخ وقائع وتفاصيل تلك الدعوى الجنائية التي أقامها كليون وبعض المسؤولين ضد أريستوفان. يُروى في مكان أنّ فحوى الدعوى كانت عدم «أثينيّة» أريستوفان، أي إنه أجنبي. ما يعني أنّ ليس له أدنى حق بانتقاد لا النظام الأثيني ولا أي فردٍ فيه. ويُروى أنّ أريستوفان أثبت أصله الأثيني بعدها، فسقطت عنه الدعوى، وظلّ محافظاً على حقه «المشروع» كأثيني بالانتقاد. يمكننا افتراض عكسَ ذلك. ما الذي كان ليحدث لو أنّ الرجل الذي تسبّب بقصد أو بغير قصد في محاكمة سقراط، وأهان حاكم أثينا ونظامها القضائي وكل قانونها، رجلاً غير أثيني؟ يمكن التخمين أنّ نتيجة المحاكمة سوف تكون أشنع بكثير مما حدث مع سقراط. لأنها لا تنطبق على مواطن أثيني، بل على أجنبي، «همجيّ»، ما من خوف في ارتكاب جرائم بحقه، أو تجريده من سماته الإنسانية، ومن موهبته، ومن فاعليّته، ومن جدواه، ومن أيّ حضورٍ بشري له. ما من خوف في منعه عن استخدام أداته الوحيدة في الحياة: الفن. لكنّ ذلك لم يحدث آنذاك. إنه يحدث اليوم، بلا شك. يكفي ذكر ما حدث مع عدنية شبلي في فرانكفورت وأيمن بعلبكي مع معرض «كريستيز» وآخرين كثر لتأكيد ذلك. بالنسبة إلى وجهة النظر تلك، تصبح الجنسية إذن- جنسيّة العمل أو صاحب العمل، لا فرق- هي التي تحدّد وتقرّر حضوره من عدمه، وهي المقياس لفعاليّته وقيمته الجماليّة، وإن كان قابلاً للعرض أو المشاركة في معرض أو مهرجان أو غير ذلك.
ليس ثمة الكثير لقوله عن ذلك. لقد قالت الكاتبة والمؤرخة الألمانية إديث هاملتون في كتابها «الأسلوب اليوناني في الأدب والفن والحياة»: «إننا بحكم وراثتنا الروحية والفكرية إغريق في جزءٍ منا»؛ أي إغريق، ولا سيما في ذلك القانون الذي أقرّه بركليس، وحاول كليون تطبيقه بعد ذلك. ومما قالته: «المعروف عموماً أنّ الإغريق ينتمون إلى العالم القديم، ولكنهم في هذا التاريخ موضوع القرون. فالعالم القديم إذا ما أعدنا بناءه يحمل الطابع ذاته: في مصر، في ما بين النهرين: طاغية يتوّج فتصبح نزواته وأهواؤه العامل الحاسم في الدولة، شعب بائس خاضع، ومنظمة كهنوتية ضخمة تهيمن على التفكير. هذا ما نعرفه عن الدولة الشرقية اليوم. استمرت في العالم القديم عبر آلاف السنين ولم تتغير في أي شيء جوهري، لقد ظلت هي ذاتها عبر كل العصور، بعيدة من كل ما هو حديث». ومما قالته، وهو من أهم ما قالته هاملتون: «الإغريق كانوا الغربيين الأوائل، فروح الغرب، أي الروح الحديثة، هي اكتشافٌ إغريقي. لقد ظهر الإغريق وابتدأ العالم كما نعرفه». يمكن تكرار الجملة الأخيرة ببطء حتى يتردد صداها: «لقد ظهر الإغريق وابتدأ العالم كما نعرفه». لقد عرفته إديث هاملتون بطريقتها، ومعها آخرون بلا شك. أما نحن، حاملو هذه الجنسيّة، أي جنسيّتي وجنسيّتك، فنحن موضوعات للمعرفة، لا ذوات عارفة. هذا ما يقوله ورثة الإغريق، منذ كتابات إيمانويل كانط ثم مع هيغل ثم مع إيمانويل ليفيناس كما يقول حميد دباشي في كتابة «هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟»، بل منذ القانون الصادر عام 451 قبل الميلاد.