لقد اختلفت ساحات التعبير عن الحب، من ليالي السمر في الخلاء، وسط الصحراء، وراء ظهر القبيلة، إلى تفتيش المرء في واحات تطبيقات التعارف عن ضالته علّه يجد فيها سبيلاً يخفف عنه آثار الجفاف: الوقوع في حب «البروفايل» من أول نظرة، عشق الصورة بفلاترها النضرة، الإعجاب بالشخصية البادية في «البايو». تجد المرء وسط الجماعة مطأطئاً رأسه، مُلوياً رقبته -التي تطلق طقطقات الاستغاثة- وعيناه على الشاشة بين يديه، مسلوباً، تنفرج أساريره، يبتسم، يتجهّم وجهه، يقطّب، يتفاعل بكل جوارحه، يمشي وهو يحدّث نفسه. كلٌ وراء أسوار صفحته، وإن وصلت العلاقة الإلكترونية إلى طريق مسدود، إن ديس على «البلوك» اللعين.
يقف المحب المطعون وقفة امرئ القيس، على أطلال الصفحة المحجوبة، يتباكى ذكرى حبيب مزلزل. ولو تطورت العلاقة الإلكترونية المنشأ ووصلت إلى الزواج، فالعرس ينقل مباشرة عبر المنصات، والحياة معروضة بالكامل، من أول رغيف، إلى مختلف المواقف، اللطيف منها والمخيف. وعند الإنجاب، للطفل صفحة مستقلة، قِجّة، يدّخر فيها الأهلُ المتابعين، ويسلمونه إياها عندما يشتد عوده، ليُظهر نتاج تربيتهم «الأونلاين» على منشر «الستوريز». والمشكلات الزوجية تُبثّ عبر «لايف» على تيك توك ليشاهدها أكثر من بلد. الحكم للجمهور، وقد تُحلّ بأسد، فالأُسْدُ تُبدّل الكدر، وتعين على القضاء والقدر. أما الطلاق، ففي أعلى مستوياته على الإطلاق، والمحاكم تعتمد في رزقها عليه، إذ إن الزواج متضائل الشعبية.
يُعدّ الحب محرّكاً شائعاً، من الأكثر مبيعاً بين المشاعر، يجلب أعلى الإيرادات، لذا نظم الشعر فيه منذ بدء الشعر، وكتبت روايات وقصص، أنتجت أفلام ومسلسلات، وما زال الحب لم يُستنزف، ما زال قادراً على الجذب، فهو طاقة متجددة، لا تنضب رغم كثرة الاستهلاك. وقد اتسم الحب بالعذوبة وبالعذاب، اقترن الحب بالحرب، ومن أبهى تجليات هذا الاقتران قول عنترة بن شداد: «ولقد ذكرتك والرماح نواهل\ مني وبيض الهند تقتر من دمي\ فوددت تقبيل السيوف لأنها\ لمعت كبارق ثغرك المتبسم» وصولاً إلى اقترانهما في كلمات شادي نور: «حبك سفاح\ مجرم وماسك لي سلاح\ حبك مانغا وتفاح».
تتدلى من التلفاز طوال الوقت، إعلانات لحفلات غنائية، وتتهافت الحفلات في عيد الحب، على مدار الشهر كله، يحييها فنانون لهم جماهير، اصطلح على تسميتهم «فانز». وهؤلاء يحبون المغني/ة ويحفظون أغانيه عن ظهر قلب، يتابعونه، بل يتبعونه، ومنهم من يتطرف في حبه حد الامحاء والذوبان فيه، وقد اختلفت طرق التعبير اختلافَ الذائقة الفنية، فثمة من باع أرضاً يملكها ليحضر حفلاً لأم كلثوم. تشهد الحفلات اليوم صراخاً وإغماءات، وقد شكلت منصات التواصل الاجتماعي ساحة للتعبير عن مدى الحب للفنان، ويختلط الحب هنا بالحرب كذلك، حرب وهمية لها ارتداداتها على الواقع، والجيش الوهمي يغرس براثنه في تلابيب من يحدج محبوبهم بنظرة، أو يتجرأ فيطلق باتجاهه نبرة.
الذباب الإلكتروني، ذباب يختلف تماماً عن ذبابة سقراط، إذ إن ذبابته تزِنّ على الدولة -الفنان هنا- بغرض الحث على العمل وتصحيح المسار، أما الذباب الإلكتروني فلا يزنّ إلا على من ينتقد الفنان، هو معيار الصواب عندهم، يصير التصرف الخاطئ صواباً إن أقدم عليه، ويعود خاطئاً إن هجره. وتشهد ساحة الحرب تحالفات وجبهات، وتستعر المعارك بعد أي انتقاد يصوب إلى المحبوب. وهو في المقابل لا يعلم إلا عدداً ضئيلاً منهم، يُسلّم عليهم ويلتقط معهم الصور قدر الإمكان، ويقود جيشه من الظل محدّداً طبيعة الهجوم والزمان. وتنسحب الظاهرة التي لا يبدو أنها ستعرف الانحسار على مختلف ميادين المجال العام، السياسة والإعلام، وعلى لاعبي كرة القدم وأنديتهم ومنتخباتهم، فبسبب مباراة أو تصريح، قد تتنافر شعوب وتشتبك دول. ربما هي حالة اضمحلال للثقة بالنفس، واستسهال عبر المغالاة في حب الناجح عوض السعي إلى النجاح.
ومن تمظهرات الحب، هو حب الوطن، وحب الزمن. دع المزاج جانباً، إنّ من أدمغ الأدلة على اقتران الحب بالحرب، هو حب الوطن. الرسوخ في الأرض رغم العواصف، رغم القذائف، التشبث بها، ولو لم يبقَ بيوت ولا محال، ولو امتلأت الطرقات باللون الأحمر. ويتجلى التكرار بوظيفتيه في الإصرار رغم الدمار على السعي إلى التحرر، وعدم الاكتفاء بمدح المحرَّرين. أما «الدباديب؛»، بنسختها الوحشية -كالتي في أفلام الرعب- فتنبش المقابر وتعتلي المنابر. أما بعد، لا بأس بإيلاء بعض الرومانسية للأرض التي نحبها، حتى ولو صحّت مقولة «من الحب ما قتَل»، فإذا كان الموت هو السبيل للحفاظ عليها، فلا مانع بذلك.