«جَل جَلْ علي يا الرمان» هكذا تبدأ الأغنية ولا تنتهي. الأغنية العراقية التي غنّاها المطرب إلهام المدفعي والتي لم يُعرف ملحّنها ولا كاتبها. كانت بمثابة نشيد العراقيين الثوري إبّان الاحتلال العثماني. «أيها الرمان يا طرابيش السلاطين، يا فرط عَقدِ العربي الأبديَ...»، و«دومي فزع لي» كما يفزع النعاس للمتعبين كما وعد البريطانيون العراقيين بتحريرهم من الحكم العثماني لكنهم فزعوا لنا، ولهم، ولكل عربيَ بتركنا نائمين إلى الأبد. لقد جلجل الغيم، والتبس علينا العربي من الصهيوني، والعربي من العربي. ضحكات ترقص في الوهم. أيها البحر المرتفع الذي لا تنقر النوارس فاكهته. أيها الطفل الوحيد الذي لديه صبارة تحت لسانه، سامحنا لقد صنعنا من لحمك سكيناً.الكثير من الحجيج والملائكة جاؤوا ليحضروا «موسم الرياض»، المهرجان الكبير الذي أقيم في المملكة العربية السعودية. جاؤوا لسماع آخر أغنية من آخر ألبوم لآخر مطرب، وكان هناك الكثير الكثير من البياض على مدّ النظر. ما هذا السلام؟ وما هذا الحمام الذي يمر من فوقهم مضرّجاً بالدم والخوف، والسعال الأبدي لهذا العالم.


تخفت أصوات التظاهرات، ويعلوا صوت الأغاني، أما بعد: يُباد شعب بأكمله بينما تمر جملة من أغنية ولا نعلم إذا كان هناك ولو إهداءً من قبل المغني/ المغنية إلى غزة. وفي هذه المناسبة شكراً لموسم الغناء الذي وحّد لنا الصفوف، ولمّ شمل العالم العربي كله، ولأنه فرّق بين الطرب والصداح. فالغناء في «مهرجانات الرياض» ليس غناءً بل ثرثرة صاخبة، صيحات تشذّ عن أوتارها. تطمس الآذان فلا يصل الصوت إلى السماء إنما إلى سقف حلقي. صفقوا، صفقوا، لقد أهدينا شعب غزة أغنية وآلاف الشهداء. ما الهدف من هذا كله؟ هو تشويش على ما هو مهم، هو تشويش على المهم. مهرجان أشبه بكرنفال، لإغفال النظر عن طريق الحرية، لتحوير معنى الحرية، وتزويرها في القول إنّ الغناء يعني مهرجاناً وسلاماً غير أنّ آلاف الشهداء لم يستطيعوا تحرير العقل العربي، فهل ستحرّره أغنية؟ تصفّق الجماهير وتصفّق الأبنية، هل تعتقد حقاً أنه في وسعكَ الغناء ساعة الحرب، وهل تقبل وأنت تموت أن أهديك أغنية وبعضاً من الأسف؟
ها أنتم ذا، ضع مكبر صوت على القمر وواحداً في زحل، كي يسمع العالم من نحن: نحن أبنية حديثة بلا روحٍ، مكلّلة بالذهب وبالحليب الأسود، وصوت بعيد بعيد، يهمس: لا تعقروا الناقة مرتين. لن نرث من التاريخ العربي سوى كلمة «ندين» وأخرى «نشجب»، ويجب علينا إيقاف الحرب، وأن ندخل الأعداء متاحفنا ونريهم أمجادنا، وبالتهديدات التي ما حركت جناح بعوضة، وبعروض عسكرية أمام زهرة واحدة تفتحت في خاصرة العالم. لم يبق من يدفننا في بلادنا، فحتى حفار القبور استُشهد، فيقصفون المقبرة، بحجة أن شهداء المقاومة قد عادوا أحياء من جديد. إننا آسفون حقاً لقد تم مصادرة المقبرة.
نعم يا أعزائي نبدل جلدنا بقشرة الحضارة ونشرب دمنا نبيذاً ونعتقه بمخازن الأسف. نسرد لبعضنا ليلاً حكايات ابن عمنا أبي لهب الذي «ما أغنى عنه ماله وما كسب»، وإنّ التطبيع، والتطبيل، هو الشيء الوحيد الذي تبقّى من شيم العرب. وأميركا وأميركا وأميركا و«فرعون ذي الأوتاد». نحتاج عصى موسى في معبر رفح، شقه مرتين يا نبي الله، ففرعون وراءنا والموت أمامنا. ما بقي من أرواحنا سوى أولادها، ومن أجسادنا غير أشلائها، والنملة التي اعترضت وقالت «باسم الله الرحمن» أخذوها هي وآخر حرفين وسجنها جنود الملك.
للصحراء هوية إياكم وزخرفتها بالماء. وللسماء أودية لا تدنّسوها، اخلعوا نعالكم. ولفلسطين تاريخ وفدائي وهوية. تمر قذيفة، عشر، ألف، يموت العشرات من الأطفال، لكن بعد قليل سيصدر بيان عن العاهل الملكي يقول فيه التالي: تنص المادة الثانية لحقوق الإنسان على أن تموت من الضحك.
البند الأول: الجميع له الحق في العيش، وفي قراره عن ماهيته ومن سيكون. نعم جميع المجرمين الرؤساء كان لهم الحق في قتل الكثير، وفي ارتكابهم للإبادات الجماعية، وماذا بعد ذلك؟
حريصون جداً على ألا يسقط الملك من علو شأنه. على ألا نوقظ الذبابة عن الخريطة. نسمع زغاريدهم أقوى من صوت الطائرات الحربية والأبنية التي تقع كل دقيقة. إني أراك يا أبي أقوى من الحقيقة، هذا ليس عرساً، ولا حفلاً غنائياً طويلاً هذه أم قد استُشهد ابنها منذ قليل. هذه المفرقعات ليست ابتهاجاً بتتويج حفلنا الكريم يا سيدي وهذه النار ليست ضمن العرض التي ستقدمه الفرقة. هذا احتراق طفلي بإحدى القنابل العنقودية سيُضيء لمن سوف يأتي بعده الآخرة.
أسمع الآباء هناك يقولون: ما هذا العدو الرحيم لقد أتاح لنا فرصة خمس دقائق لولادة أطفالنا ليموتوا من جديد. إلهي هل من نبي جديد! يوزعون الحلوى ليس عيداً إنما تقول الأم لابنها الثاني: خذها يا ابني لأخاك معك، ولكن إياك أن تخطئ المقبرة، بعد ثوان معدودة تسقط قذيفة عليهما ويأخذان معهما الأخ، والبيت، والمقبرة.
أيها العالم المخزي، إِن لم يحاول العصفور الطَّيران، لن يدرك أنه في قفص.