مع استمرار الهجمات الإسرائيلية المدعومة من شركات أجنبية وماركات عالمية على فلسطين التي استُشهد فيها أكثر من 5791 مواطناً منهم 2360 طفلاً حتى وقت كتابة هذه السطور، ها هو خبر جديد عن شركة جديدة يطلّ علينا: «تبرّعت شركة والت ديزني بـ2 مليون دولار لمصلحة إسرائيل، كما أكدت شركة ديزني على حقّ أطفال إسرائيل بالتنعّم بحياةٍ طبيعية». يبدو أن الشركة التي تطمح إلى تحقيق أحلام الأطفال ومدّهم بأبطالٍ ومٌثُلٍ سيرافقونهم إلى الأبد، لا تهتم بجميع أطفال العالم كما تزعم. يغدو ورود الخبر، من ناحية أخرى، فرصة مناسبة لفحص السرديات التي تقدمها لنا ديزني، وأن ننظر إلى أفلامها وقصصها والصورة التي تقدمها لنا كإحالات ثقافية يُراد منها تشكيلنا، بناءً على معايير تلائم سلامة وخيال الطفل الإسرائيلي.

قد يكون الموضوع بالنسبة إلينا مخيباً: كيف يمكن أن تكون طفولتنا بخسة إلى هذه الدرجة؟ كيف يمكن أن ينقلب علينا ذاك الذي الذي ترعرعنا عليه؟ فلأفلام ديزني ركنٌ خاصٌ في طفولة الكثيرين منا. لطالما كان لديزني ركن خاص لا يرتبط بطفولتنا فحسب، بل دائماً ما نجد أنفسنا نعود إليه في أعمار مختلفة. ولكن ليس مستغرباً من شركة بحجم ديزني أن تقف إلى جانب إسرائيل، وأن تغضّ النظر عن أطفال فلسطين. ففي النهاية إنّ ديزني لا تعمل وفقاً لبوصلة أخلاقية، أو بناءً على مستوى فني ثابت لا يتزحزح. إنها بكل بساطة تعمل وفقاً لمقاييس السوق، ما يعني أنّ الإستراتيجية المتّبعة تشترط تغيير الجلد، تغيير الأقنعة من أجل الاستمرار، إعادة معالجة الكلاسيكيات القديمة بقناع جديد. سنتأمل قليلاً بما جاء في الأعمال الكلاسيكية والمعاصرة التي تُنتجها ديزني، وسنفتّش عن تطوّر القصص والأبطال على مدار السنين، وعن الأسباب التي تكمن وراء هذا التغيّر.

المرحلة الأولى
عند نشأتها في ثلاثينيات القرن الماضي ركّزت ديزني في أفلامها على مجموعة من العناصر الثابتة أبرزها وجود بطلة تقع في أزمة نتيجة اختيارات أو قرارات خاطئة طائشة ولا تخرج منها إلا بمساعدة الآخرين. نجد ذلك في فيلمهم الأول «بياض الثلج والأقزام السبعة» (1937) ثم في الأفلام اللاحقة «بينوكيو» (1940) و«دامبو» (1941) و«سندريلا» (1951) و«الجميلة النائمة» (1959) وغيرها.
تنشغل أفلام المرحلة الأولى التي تتناول قصص البطلات تحديداً –أو أبطال صغار لا يمكن اعتبارهم ذكوراً بالمفهوم البطولي- في وضع شخوصها في زاوية معينة ثابتة. البطلة التي ليست بطلة على الإطلاق، المغلوبة على أمرها، والتي تحتاج إلى مساعدة من الآخرين دوماً، فيأتي الرجل الشجاع في النهاية وينقذها، فيكون هو البطل الحقيقي ولو كان عنوان الفيلم يحمل اسمها.
تترسّخ هذه الفكرة المتكررة في أفلامهم الأولى، في «بياض الثلج» مثلاً: الأميرة «بياض الثلج» التي يساعدها حسن حظها على الهروب من زوجة أبيها الملك الراحل لتجد نفسها في الغابة من دون صديق، لكن يعود حظها الحسن ويلعب دوره من جديد، فتجد مجموعة من الأقزام الذين يستضيفونها في منزلهم ويساعدونها، إلا أنّ زوجة الملك تعود من جديد لتنتقم منها بالتفاحة المسمومة، فتسقط «بياض الثلج» في غيبوبة لا ينتشلها منها إلا الأمير –وحظها الحسن من جديد- الذي يتزوجها في النهاية. واضح تماماً كيف أنّ «بياض الثلج» هي المثال الكلاسيكي للفتاة الضعيفة التي تتقاذفها الأقدار حتى ينقذها الرجل الماتشو. يستمر هذا التناول في أفلام عدة. سنجد «سندريلا» التي ينتشلها الأمير في النهاية من حياة البؤس، وكذلك «الجميلة النائمة» التي يتحدّى الأمير كل الأهوال بغية إنقاذها من سباتها ومنحها الخلاص في نهاية المطاف.

المرحلة الثانية
تغيّر إيقاع ديزني في هذه المرحلة وأنتجوا حبكة مغايرة عن تلك السابقة، وقد استمرت لسنوات عدة. اكتسبت ديزني في هذه الفترة جمهوراً كبيراً ومتنوعاً يضم الأطفال والكبار، وجدوا جميعهم أنفسهم كمساكين يواجهون قوى الشر في العالم. لكن تغيّرت هذه الحبكة قليلاً في التسعينيات، إذ قدمت ديزني بعضاً من أشهر وأنجح أفلامها في هذا العقد. لم يقتصر الاهتمام في هذه المرحلة بالأنثى بل ترتكز أكثر على البطل/ الذكر. تترك الأنثى كرسيّها الوثير كونها تنتظر البطل لينقذها ولم تعد مجرّد شخصية ثانوية، سنجدها الآن بدورٍ فعّال أكثر، إذ تساعد بطلها في رحلته وتعبّد الطريق أمام «رحلة البطل». هو مسار يخوضه على مدار الفيلم، يتكرس أخيراً في الزواج منها. هكذا يكون الزواج بمثابة جائزة، أو واحدة من الجوائز.
تبدأ هذه المرحلة تحديداً عام 1991 مع فيلم «الجميلة والوحش» حيث نجد البطل هنا وقد تحوّل إلى وحش. وبالرغم من ذلك فهو رجل رقيق يحتاج فقط إلى مساعدة فتاة لتخرجه من هذه اللعنة. يبدو الفيلم ظاهرياً تمثيلاً لانقلاب قوة الذكر/ الماتشو على نفسه واعتبارها لعنة. وبينما يبدو الفيلم في البداية أشبه بقوتين متعادلتين بين الذكر «الوحش» والأنثى «الجميلة» يمشيان جنباً إلى جنب، إلا أن هذه العلاقة ستميل بعد ذلك نحو الرجل، وستتحول حبكة الفيلم إلى صراع بين ثنائية الخير والشر متمثلان في الوحش (الخير) وجاستون (الشر) من أجل الفوز بالجميلة. في النهاية ستنتصر القوة الذكورية التي بدت كلعنة في بداية الفيلم، أي إنها ستعود وتحقق أهدافها بالرغم من كل شيء.
هذا الصراع بين ثنائية الخير والشر، حيث الذكران هما أبطال الصراع ويتصارعان من أجل الفوز بالأنثى أو بالقوة أو بالاثنين معاً سيستمر على مدار عدة أفلام تالية: «علاء الدين» (1992) «علاء الدين وجعفر»، «الأسد الملك» (1994) «هرقل» (1997) «هرقل وهاديس»، «طرزان» (1999) «طرزان وكلايتون»...
لا يمكننا غضّ النظر عن علاقة هذا التطور الذكوري الملحوظ في حبكة أفلام ديزني في تلك الفترة مع الهيمنة العالمية التي اتخذتها أميركا في ذلك الوقت. بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات، باتت أميركا هي القوة العظمى المهيمنة، وبات من المفيد تصدير هذه الصورة إلى الأجيال الجديدة في ذلك الوقت. ولا يمكننا أن نغفل أيضاً توظيف ديزني لمفهوم «رحلة البطل» –التي وصفها جوزيف كامبل في كتابه البطل بألف وجه- المستمر حتى يومنا هذا، إذ طاول هذا التوظيف أفلام الأبطال الخارقين. الحبكة التي تعرف أن نهايتها ستكون لمصلحة البطل مهما مرّ بصعوبات وأهوالٍ، فهو سينتصر لأن هذا ما هو «مقدّر» له. أفلام ديزني هنا انعكاس للدرب الذي على البطل أن يتجاوزه حتى يصبح بطلاً. لا يرتبط نجاح البطل بقراراته أو بتكوين شخصيته إنما نجاحه مقرون بامتحانات سوف يخرج منها منتصراً حتماً. وهذا ما يتقاطع مع الأسطورة، فالبطل أسطوريّ لكن لكي ينال «أسطوريته» عليه القيام بـ«رحلة البطل». وبما أن التكرار وإعادة التدوير من إستراتيجية ديزني، فسيعرف المشاهد بسرعة الوجهة المقصودة والمراحل التي يتوجّب على البطل أن يقطعها، حتى تبدو القصة له كحكاية أسطورية قديمة حفظها عن ظهر قلب.

المرحلة الثالثة
مع انطلاق موجة النسوية الجديدة عام 2012 تقريباً وبالتزامن مع حركة «Me too» بدأ الاهتمام يزداد أكثر في تأمل العلاقة بين الرجل والمرأة، والعمل على محاربة الذكورية في الصورة والقصة وملامح البطل. لم تفوّت ديزني هذه الفرصة لارتداء قناع جديد يناسب مزاج الجمهور وبورصة السوق. باتت الشركة التي تقدّس الذكورية منذ الثلاثينيات تميل إلى تصوير نساء كبطلات حقيقيات، ليس إيماناً بالقضية النسوية كما هو واضح من إنتاجها الفني من البداية، بل مجرّد استغلال للقضية للاستمرار والانغماس مع ثقافة العصر.
نجد ذلك مثلاً في فيلم «موانا» (2016) ابنة القائد التي تنقذ جزيرتها موتونوي. كذلك في «إنكانتو» (2021) حيث «ميرابل» تنقذ أسرتها وتُعيد لم شملهم. لكن ما يثير السخرية هو استمرار الشركة في توظيف حبكة «رحلة البطل» في سرديّتها النسوية، ما ينفي أي اختلاف بين البطولة الذكورية أو النسائية، إنه احتفاء دائم بـ«البطل» الذي ينتصر دائماً وفي جميع الأحوال، مهما اختلف جنسه. إنّ المنتَج نفسه ولكن بعباءة تجارية جديدة من أجل السوق من دون تطوّر في المقاييس الفنية.

نهاية مستمرة، مستقبل متوقع
لا نعلم إلى متى يمكن أن تستمر ديزني في دعمها للموجة النسوية في أعمالها الفنية. يمكننا أن نتكهّن وأن نقول إن «التزامها» النسوي هذا سيتوقف حينما ينتهي اهتمام السوق بالموجة على الأغلب. وربما ستأتي من بعدها موجة دعم للذكورية عندها ستتجه الشركة –أو ستعود بالأحرى- إلى أبطالها الماتشو من جديد بعضلاتهم المفتولة وصدورهم العريضة وبطولاتهم التي ليست إلا أقنعة متغيّرة.
مع دعم شركة ديزني لإسرائيل وانحيازها الفاقع ضد الأطفال الفلسطينيين، يمكننا أن ندرك هوية جمهورها الحقيقي. إنهم هؤلاء الذين يقتنعون بالأقنعة البطولية الزائفة. أما بعد، آن لنا أن نفهم جوهر إستراتيجية ديزني جيداً: فهي إذا لم تسرق الأحلام وتبيعها من جديد تسهم في إبادة أحلام وحيواتٍ بدم بارد. وبكل فخرٍ واعتزازٍ تشاهد «رحلة البطل» وتأكل الفوشار وتفكر في فيلمها الجديد.