بالعادة، إننا ننزعُ بطاقات الأسعار عن الملابس بعد شرائها، ونُلقي البطاقات بعيداً. تتزايد قوة الإلقاء كلما زاد سعر القطعة التي اشتريناها، لأننا بطبيعة الحال لا نريد أن نتذكر الثمن الباهظ الذي دفعناه من أجل الحصول عليها. وعلى الرغم من أنها عادة متكررة لازمتنا، وبالرغم من تطوّر مهاراتنا في إلقاء البطاقات على أبواب المولات، إلا أنها انوَجدت في شخصياتنا، عادة جديدة معاكسة بل قُل نقيضة عن تلك التي اعتدنا على القيام بها وهي: الاحتفاظ بالبطاقات، مُعلّقة، تظهر أمام أعين العامة.مع التأمل الأول لهذه العادة، أي إظهار البطاقات، فإننا لا نلاحظ وجود ماركات عالمية أو محلية مكتوبة عليها، ولا أرقام تقبع بجوارها رموز عملات أنيقة، بل نلاحظ بيانات على شاكلة جملة تأتي هكذا: «اضطراب ثنائي القطب، ديسمبر 2019... على الأغلب» أو «اضطراب الشخصية الحدية، تركتني فلانة في ليلة 14 فبراير 2020» أو «غداً من الممكن أن ننتحر، الآن علينا أن نحب». نحافظ قدر الإمكان على أن تكون هذه البطاقات ظاهرة طوال الوقت، تبان لأنفسنا، وللعائلة، والأصدقاء والعامة.

تصميم فرانسوا الدويهي

الترجمة الأنسب لمصطلح «Clothes Swing Tickets» هي بلا شك «بطاقة». يمكن أن نقول أيضاً «بطاقة هوية» حيث نعرف كل شيء عن قطعة الملابس التي نحملها في أيدينا قبل أن نشتريها. واحتمال هذا المصطلح كترجمة لمصطلح أجنبي يفسّر لنا احتفاظنا بهذه البطاقات معلّقة بوصفها ظاهرة، بحيث أنه من خلالها بتنا نعرّف عن أنفسنا. هكذا، أصبحنا نضيف وجهاً جديداً إلى هويتنا، أو الأسوأ، نعتبرها الوجه الوحيد لهويتنا. لا نريد أن ننزع هذه البطاقات بأي حال من الأحوال، وربما قد نتواجه مع مَن يحاول أن يصفها بالبطاقة المزيفة. من خلال هذه البطاقات يمكن أن نقدّم وصفاً، أو لنقل اختصاراً لشخصيتنا. من خلال هذه البطاقات، بات يمكننا أن نؤطّر عنصراً مهماً في حياتنا ونعتبره الوجه الأساسي لنا، يمكن أن نضيف ونحذف ونختصر ونسهب طالما أن هناك زبائن آخرون يقدّرون البطاقات أكثر من أصحابها.
كبداية، نحتاج إلى التخلّي عن الغيرة بيننا نحن الزبائن -لأن كلنا زبائن بشكل أو بآخر مهما حاولنا الإنكار- الغيرة من الزبائن الأفضل، الذين حصلوا على بطاقات أكثر، أو أفضل، أو بطاقات نادرة، لامتيازات مادية أو جغرافية أو ثقافية، ونتأمل بحياد ثلاثة أقسام مهمة في ذلك السوبرماركت الكبير حيث باتت يومياتنا المعاشة معلقة على رفوفها.

قسم الأمراض العصبية: الـ«Meme» والتسليع قاتل
هو القسم الأكثر ازدحاماً بلا شك. ليس لأننا جميعنا نمر بصراعات نفسية بطبيعة الحال، ولكن لأن النسبة التي لم تكن تعرف وجود لفظة «صراع نفسي» ولا معناها ولا حتى العالم الطبي الماثل ورائها، باتت تبحث عن هذا «الصراع». أغلبنا هنا، في قسم الأمراض العصبية هذا، وبعضنا مستمتع بهذا القسم بشكلٍ أو بآخر. لا تكمن المشكلة في الأمراض العصبية بحدّ ذاتها، بداية من الاكتئاب والقلق ومرورًا بالتقلبات المزاجية والرهاب الاجتماعي وصولًا إلى الأفكار والأفعال الانتحارية إنما تكمن المشكلة في تطوّر نظرتنا لمنظومة الطب النفسي ككلّ.
في عالمنا العربي، على سبيل المثال، وحتى فترة قريبة، لم يكن للأمراض العصبية من وجود، أو على الأقل هكذا كانت المجتمعات العربية تتعامل مع الأمر. كانت مسائل الأمراض العصبية تندرج في خانة اللاهوت والدين والعلاقة مع الله، ثم بدأ الاعتراف بها تدريجيّاً حتى بات علاجها طبياً من صلب اهتمامنا. لاحظنا هذا التطور مثلاً وبشكل واضح جداً بعد عرض مسلسل «خلي بالك من زيزي» عام 2021، واهتمام الناس أكثر بالتعرف على مرض الـ«ADHD» الذي عانت منه بطلة المسلسل، «المرض» الذي كان مجهولاً تماماً للغالبية العظمى من الجمهور. رافق هذا التطور تطور مختلف، أي اهتمام أكثر من اللازم بالأمراض العصبية جميعها، ومحاولة جمع أكبر عدد ممكن منها في شخصياتنا، كمن يجمع المواهب.
بتنا نتعامل مع الأمراض العصبية كأنها جزءًا من ذواتنا، من هويتنا، وبالتالي لم تعد شيئاً نحتاج إلى التخلص منه. بات المرض العصبي السلعة التي نشتريها ونحافظ عليها من أجل الامتيازات التي تقدمها لنا مهما كانت العواقب.
واحدة من أبرز الوسائل التسليعية للأمراض النفسية –ولأي شيء بكل تأكيد- هي وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح التخفّي وتساعد في تكوين صورة خاصة بك تظهرها لمن لا يعرفونك. على مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أن بعض الناس يلجأون إلى بطاقة هوية مزيفة، وهي المرض العصبي، والتي تتيح مساحة معتبرة من التعاطف والحب والتضامن من قبل الجميع. ربما أهم قالب تسليعي للمرض النفسي على وسائل التواصل الاجتماعي هو الكوميديا، أن تتناول المرض النفسي بروح مرحة متقبّلة ظاهرياً تضيف غلاف تسليعي جديد يجذب مزيداً من الزبائن. بدأ الأمر عادة بالميمز «Memes» التي يصنعها هواة الفوتوشوب ويشاركونها بين أصدقائهم أو في مجموعات على الفيسبوك أو على تويتر، ثم تطور الأمر قليلًا ليصبح فناً وتوجهاً قائماً بحدّ ذاته. نشأت صفحات مخصصة لهذه ال«Memes» على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتابعها الآلاف، تتناول الأمراض العصبية –الاكتئاب والأزمات الوجودية بالتحديد- بشكل كوميدي فلسفي في كثير من الأحيان، منها على سبيل المثال: «Freud intensifies» و«books I didn't read» و«Disturbing Quotes» وغيرها الكثير.
فالكوميديا والنقد اللذان كانت تقدمهما هذه الصفحات تجاه الشخصيات السلبية، أو المجتمع الذي يساهم بشكل كبير في إصابة أفراده بهذه الأمراض، قد تحولا مع الوقت إلى سلعة متكررة لا جديد فيها: مجرد استمرارية في إنتاج المزيد من«Meme» بحيث يمكن أن نعتبرها قصور إبداعي مستمر. فإعادة تدوير الأفكار نفسها بدون جديد باتت مستهلكة، تساهم في استعادة مشاعر قديمة، سلبية بطبيعة الحال، قد نكون تجاوزناها بالفعل، لكن استمرار السردية نفسها من خلال توليد الأفكار نفسها سيضعنا في دائرة مغلقة لا فائدة منها غير التسليع. وقد وصل التسليع إلى طباعة هذه الميمز على الملابس والأكواب وبيعها، حيث تجد مع كل «Meme» جديدة لينكاً مرفقًا يمكن من خلاله أن تشتري تي شيرت مطبوع عليه.
خلف التسليع المستمر للأمراض العصبية يقبع شبح التعاطف. نحاول دائمًا إيجاد مرض عصبي مستتر في شخصيتنا بحثاً عن التعاطف من الطرف الآخر، ثم نحاول تحليل شخصيات الآخرين وكشف الأمراض العصبية في شخصيتهم –أو إلصاقها بهم عنوة إذا تطلّب الأمر- لكي نتعاطف معهم، أو لكي نتوقف عن التعاطف معهم، لك بحسب طبيعة علاقتنا بهم.

قسم الترفيه: جنة النخبة وجحيم الفنان
المتأمّل في لافتة «قسم الترفيه» سيلاحظ بعد لحظات وجود لافتة أخرى تختفي خلفها. واللافتة المستترة مكتوب عليها «قسم الفن». على العموم، ليست القضية هنا تعريف العنوان المناسب لهذا القسم، وبالتالي تحديد أهدافه بشكل أسهل قليلاً. إن قسم الترفيه ملاصق لقسم الأمراض العصبية، إذ إنه الملجأ الأول لمَن لم يجدوا أي حلول أو متعة أو خلاص أو تعاطف في القسم السابق. كل أنواع الترفيه متاحة هنا، بداية من الأفلام ومروراً بالمسرح –أقل البقع ازدحامًا في هذا القسم- ووصولاً إلى الكتب.
يمكن أن نقسّم الألوان الفنية/ الترفيهية –وهو تقسيم يكرهه البعض بالمناسبة لكنه مناسب لقضيتنا هنا- إلى قسمين رئيسيين: التجاري والنخبوي. بالطبع يتقاطع القسمان في كثير من الأحيان، أو قد ينجح عمل فني من أحد القسمين ما يجعله ينال مميزات القسم الآخر، أو قد يفشل عمل فني في أن يكون محسوباً على أي من القسمين. على العموم، ليس الحديث هنا عن تسليع الأعمال التجارية، لأنها في أساسها سلعة.
من اللافت أن نلاحظ كيف تحولت الأفلام المهمة حقاً في تاريخ السينما –دعنا من لفظة نخبوية- إلى مجرد سلعة يومية، إلى درجة تفقدك الرغبة لمشاهدتها من الأساس. لنتأمل في المنصات السينمائية التي تهتم بهذه النوعية من الأفلام، والمثال الأبرز هو منصة «Mubi». تهتم «Mubi» بعرض أفلام لمخرجين ناشئين، ولتجارب مستقلة، والأفلام التجريبية والكلاسيكيات المهمة المنسية، إلى جانب أيضاً الأفلام المهمة عالمياً التي أنتجت خارج قصور هوليود. ورغم هذه التشكيلة التي قد تجذب أصحاب الذائقة غير التقليدية، إلا أن منصة «Mubi» تكثر من تقديس بعض الأسماء -المهمة بلا شك في تاريخ السينما- لدرجة التسليع.
إن كنت من محبي أفلام المخرج الكوري وونج كار واي، والفرنسي إريك رومير أو جان لوك جودار (إلى جانب أسماء أخرى)، فمن الأفضل ألا تتابع الصفحات الخاصة بـ«Mubi» على وسائل التواصل الاجتماعي لأنه ستقابلك جرعة زائدة من اللقطات، والصوّر من وراء الكواليس، وكولاجات لمشاهد مضاف إليها موسيقى تصويرية من أفلامهم الأهم، وهي جرعة قد تشعرك بالتخمة ثم فقدان الشهية. كل هذا من دون أن تشاهد الأفلام في حد ذاتها. ما قُدّر له أن يكون معبداً وغير مسلع بات مع «Mubi» قاعة أفراح تؤجّر بالساعة.
من المؤسف، ومن المخيف أيضاً، اختصار فيلم في مجموعة من الكادرات المكررة، مثلما هو مؤسف أن يتحول كاتب ميّت إلى مجموعة من المقولات -سبق وقالها في حياته- تندرج مقتطعة من سياقها، كما يحدث مع ميلان كونديرا اليوم، أو نجيب محفوظ الذي تحوّل من كاتب عالمي إلى ناطق بمقولات تزّج في قسم التنمية البشرية، الأمر الذي ما كان ليفكر فيه حتى.
هذا الاختصار هو اختزال الاعتباطي، هو التسليع في حدّ ذاته، أن تختصر مخرج في فيلمين أو ثلاثة وأن تختصر هذه الأفلام في بضعة لقطات أو مشاهد معيّنة مقتطعة ومحفوظة ليتفاعل معها الجمهور-وكاتب المقال بالمناسبة، عليه أن يعترف أنه كان واحدًا منهم، وربما ما يزال، في بعض الأحيان للأسف- سواء كان محبًا للفيلم أو المخرج أو معجباً باللقطة أو المشهد فقط، ويغرق في دائرة التسليع. وراء هذا الاختصار الاستهلاكي لا يكمن فقط المكسب المادي، وهو الأهم بلا شك، بل أيضاً قولبة ذائقة الجمهور، أو بالأحرى انتخاب قالب معيّن من القوالب التي أعجبت الجمهور وإعطائها نوعًا من المركزية، وبالتالي الحفاظ على ارتباط الجمهور وتفاعله مع ما تقدمه هذه المنصات طوال الوقت والتعامل مع أي تجارب فيلمية جديدة أو خارج التصنيفات والقوالب المحفوظة من خلال هذه البوصلة باتجاهاتها الجديدة. إن اختيار نخبة من النخبة بات وظيفة رائجة، ذلك لأسباب تجارية بحتة.

قسم الحب: ماكينة العنعنة
هنا القسم الأكثر شمولية بكل تأكيد، حيث أن شبحه يهيمن على الأقسام جميعها، أو من الأجدى أن نقول أن الأقسام التي وصفناها وذكرناها سابقاً، يسعى زبائنها في النهاية إلى الحصول على الحب.
إذا كانت طبيعة كل واحد منا عصيّة على وصف الآخر له، فإن أقصر الطرق للوصف والفهم، كما يظن البعض للأسف، هي اختيار صورة معينة، والإيمان التام أننا نشبهها، ثم إسقاط ذواتنا عليها. الصورة بحد ذاتها قالب، هي تسليع للإنسان بشكل كامل، تسليع يشمل كل الأقسام الممكنة، ويحبّذ التكرار. التكرار الذي يمكن أن نشبهه بالعنعنة، فشخصية فلان قد أخذها عن آخر الذي استقاها عن آخر والذي كوّنها لتعجب آخر وهكذا دواليك.
وانتخاب صورة لذواتنا يهدف في أساسه إلى التناغم مع مجموعة معينة، مجموعة محيطة بنا نحاول توطيد الجسور معها أو الانضمام إليها. وكلما أضفنا تفاصيل جديدة إلى صورتنا، كلما قلَّ قُطر دائرة التناغم المطلوبة، وكان هدفنا أكثر دقة، حتى تصل الصورة إلى الجودة الأعلى، وندرك وقتها أن هدفنا لم يعد التناغم بل الحب.
تشمل شيفرات هذا القسم الأقسام جميعها التي يمكن أن نتخيلها، فيمكن أن يتبنى أحدنا مرضاً عصبياً ليبحث من خلاله عن تعاطف يمكن أن يتطور إلى حب، أو يبرر من خلاله لنفسه وللآخرين غياب هذا الحب عن حياته. يمكن أن يحمل ذائقة فنية معينة، تجارية كانت أو نخبوية أو متطرفة أو عاطفية أو فلسفية إلخ... فيتواصل من خلالها مع طرف آخر يمتلك الذائقة نفسها ويقبض على مراده: الحب. ويمكن أن يكون مستوى اجتماعي معيّن، لا يسعى إليه حقًا بقدر ما يحاول الظهور بصورته. يصبح التسليع في هذا القسم عبارة عن علاقة تبادلية بين المشتري والمنتَج، فالحب أصبح له معايير أو شيفرات معينة هي في حدّ ذاتها قوالب تسليعية، والمشتري بات يبحث عن موضعه من خريطة هذه شيفرات، كيف يكون محل إعجاب الطرف الآخر، وبالتالي بات هو سلعة في حد ذاته في سوق... أكبر بكثير.