قرب نهاية الستينيات، كانت أميركا مشبّعة بالشعارات الرنانة التي حفظها وأطلقها الهيبيون في كل مكان. شعارات تنادي بالحرية والمساواة والسلام في فترة كانت فيها أميركا قد انزلقت إلى حرب فيتنام. مع الهيبيز انتشر مخدر «الأسيد» واستسلمت الغالبية العظمى لسكرة لذيذة ممزوجة بالشعارات أمام خلفيّة ينطلق منها «عواء» للشاعر الأميركي ألن غينسبرغ. تلك الفترة كانت مهمة في التاريخ الأميركي، منها خرجت حركات أدبية وموسيقية لم تتفوّق عليها ربما أي حركة لاحقة. في تلك الفترة، ظهر صحافي شاب هو هانتر طومبسون، الذي لا يختلف جموحه عن جموح الهيبيز في حفلات الروك. صحافي خلق صوتاً جديداً ضمن أسلوب جديد أسماه «الغونزو»، ومعناه وهو أن تشارك، كصحافي، في الحدث لا أن تراقبه وتسجّله فحسب، وأن تنقله كما عايشته بصدقية تامة. لذا يمكن أن نقول إن طومسون، في تلك الفترة، قد وجد الموجة المناسبة له، مادياً وروحياً.
(رسم: رالف ستيدمان)

في عام 1971، توجّه هانتر طومسون منع محاميه وصديقه أوسكار زيتا أكوستا إلى لاس فيغاس للقيام بتحقيق صحافي خاص لمجلة «الرولينغ ستونز»، موضوعه الصحافي المكسيكي روبن سالازار الذي قتلته شرطة لوس أنجليس في العام السابق. هناك تلقّى طومسون عرضاً من مجلة «سبورتس إلاستريتد» بأن يكتب تعليقات صحافية مرفقة بصور فوتوغرافية لتغطية سباق «مِنت 400» السنوي الذي سيُقام في لوس أنجليس خلال شهر آذار (مارس) من العام نفسه. طومسون الذي كان قد أنجز للتوّ تحقيقاً آخر بعنوان «ملائكة الجحيم»، لم يتوقّع أن تنقلب هذه «التعليقات الصحافية» إلى أهمّ عمل أدبي كتبه، وهو روايته «الخوف والقرف في لاس فيغاس: رحلة موحشة إلى قلب الحلم الأميركي»، والتي اعتبرها النقّاد مرثية لأميركا الستينيات.
بعد محاولات عديدة وفاشلة لتحويل الرواية إلى فيلم، استطاع تيري غيليام، الذي تتماثل فنتازيته الخيالية مع فنتازية طومسون الكيميائية، أن يحوّل تلك المرثية الطويلة إلى احتفالية سينمائية ويكون أبطالها كل من جوني ديب وبينيشيو ديل تورو، وتضاف إليهما أميركا بشحمها ولحمها. لا يمكن أن ننكر أن الرواية وقعت في يد تعرف خباياها بالفعل، أي تيري غيليام الذي قدّم لنا أفلاماً مثل «brazil» و«Monty python and the holy grail» و«12monkeys» بكل ما تحمله من غرائبية وهلوسات قد تختلف قليلاً في طابعها عن هلوسات طومسون بيد أنها تتفق معها في هدمها لواقع يفوق قبحه الظاهر لجماله الخابي.
في أوديسا رمزية، ينطلق الصحافي راؤول ديوك (جوني ديب)، وهو المعادل الأدبي لطومسون نفسه، مع رفيقه الدكتور غونزو (بينيشيو ديل تورو) الذي يحمل اسم الأسلوب الصحافي الذي ابتكره طومسون بحثاً عن «قلب» أميركا، و«حلمها» الضائع. لكن ما الذي يجعل النقاد يعتبرون هذا العمل الفني، أي الرواية والفيلم، مرثية لأميركا الستينيات؟ ربما نعود إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي جان بودريارد عن أميركا في كتابه «أميركا»: «إنها ليست حلماً ولا واقعاً، إنها واقعية مفرطة... كل شيء فيها حقيقي وبراغماتي، لكنها أيضاً مادة خام للأحلام». المزج بين الواقع والأحلام، يخلقه كل من طومسون وغيليام بطرق عدّة، بالإضافة إلى المزج بين الروائي والتسجيلي، بين الواقع وهلوسات المخدرات، وأخيراً بين أحلام الستينيات والواقع القاسي لأميركا السبعينيات التي أفاقت للتو من سكرة «الأسيد». في رحلتهما عبر أميركا، نرى بطلينا كمثال حي لضياع جيل الستينيات الذي عرف حركات الثقافة المضادة، وظهور الهيبيين (Hippies)، وتخوم جيل «البيت» (Beat Generation) الأدبي، وبداية صعود موسيقى البانك (Punk)، وبالطبع انتشار موجة الأسيد Acid التي انتهت، وانهار معها كل ما سبق، مع تولّي نيكسون الرئاسة ومنع «الأسيد» نهائياً.
مع ذلك الضياع التام على الصعيدين المادي والمعنوي لبطلينا، نراهما معلّقين بين الجيلين، بين ماضٍ خيالي يعود فقط مع هلوسات المخدرات الفنتازية التي تخرجُ أحشاء عالمهما فتصوّر مثلاً في أحد المشاهد، الناس وقد تحوّلوا إلى سحالي متوحشة، وبين واقع رأسمالي غارق في أكواب الشمبانيا ومغلّف بفواتير الفنادق الباهظة تحت أضواء النيون. بطلانا معلّقان بالفعل، فهما يبحثان عن نفسيهما، أو لنقل أنفس جديدة غير التي قد رقدت، وللأبد، مع انتهاء موجة «الأسيد».
يؤكد غيليام على عنصر آخر ذي تأثير أكبر على هذا الجيل، وهو بالطبع حرب فيتنام التي كانت، أثناء كتابة رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس»، لا تزال قائمة. ففي أحد المشاهد يقابل ديوك زميله المصور، وأثناء حديثهما، يخلط ديوك، تحت تأثير المخدّرات بين حديث زميله المصور ومشاهد الحرب الدائرة في التلفاز بجواره، فيما يتحول إلى مشهد رهابي يختبئ فيه ديوك -الذي يمثل جيلاً بأكمله- خلف أريكة من الواقع الذي انهار تماماً أمام عينيه. كذلك، فإن السباق الذي ذهب ديوك إلى تغطيته، يتحوّل في مرحلة ما بالفعل إلى ساحة حرب، حيث يُترَك ديوك في منتصفها مستسلماً بعدما انعزل عن الجميع بالفعل واقفاً وسط صحراء قاحلة.
يستعير الفيلم أسلوب الرواية الذي يُقحمك كقارئ في الأحداث كأنك مشارك بها، فهو «يصوّر» بأسلوب الغونزو الصحافي الذي ابتدعه طومسون. يتمثّل هذا الأسلوب بهلوسات ديوك والدكتور غونزو، ويقحمنا كمشاهدين في هلوسة متكاملة، وكأننا نرى كل شيء بأعينهما.
لا يمكن إنكار أهمية شريط الصوت في الفيلم، بكل ما يحمله من أغاني روك وبانك مثّلت الوجه الفني الأبرز للهيبيز ولأميركا الستينيات بأكملها، فنسمع مثلاً أغنيات لـ«The Yardbirds»، «Jefferson Airplane»، Bob Dylan»، «The Rolling Stones»، «Jimi Hendrix »K ناهيك بأن الرواية في الأساس مهداة إلى بوب ديلان وأغنيته الأشهر Mr. Tambourine Man. كل هذه الأغنيات التي تُمثل جوقة تصدح في آذان البطلين وفي آذاننا أيضاً، تسقطُ كظل ضعيف، كخلفية، أمام الأضواء الباهرة لكازينوات لوس أنجليس وفنادقها الباهظة، وكأنها مجرد موسيقى مؤقتة تسمعها حين تستقل المصعد إلى غرفتكَ وأنت تعلم أن ما تعيشه يشبه الوهم كثيراً، ولو عرّف عن نفسه على أنه «حلماً».