يبدأ فيلم «ضوضاء بيضاء» (White Noise) الذي صدر العام الماضي (2020) للمخرج نواه باومباك بالمشهد التالي: مُحاضر جامعي يعرض على مجموعة من طلابه شريط فيديو يضم مشاهد من أفلامٍ متنوعة، عرضت في فترات زمنية مختلفة، تشترك جميعها في أنها مشاهد لحوادث سير. يعقّب المحاضر على الشريط المعروض بمونولوجٍ نظريّ مصحوب بنبرةٍ حماسية: «نعم! باستطاعة المادة البسيطة أن تقتل الإنسان، لكن الإنسان في الوقت عينه، استطاع أن يطوّع هذه المادة ويطوّرها. إنه احتفال الإنسان باستسلامه إلى التطور حتى لو ضحّى بنفسه. علينا النظر إلى حوادث السير باعتبارها نزعة تفاؤلية. هي تعبير عن التاريخ الأميركي، وعلينا أن لا نراها كحدثٍ مأساوي إنما كصورةٍ وجب الاحتفاء بها، علينا أن نمجدها، أن نعتبرها وكأنها عيد الاستقلال الأميركي». ولأنه تلقّف مشاهد حوادث السير كرمزٍ يدلّ إلى ما يشبه حدث «القيامة»، فيكمل محاضرته قائلاً: «إنه احتفال الإنسان بخلقه لوسائل جديدة، كل يوم، لتقتله...». يجد المُحاضر الجامعي في «التاريخ المتطور» الذي يقتلنا، متعةً واعتزازاً! يمكننا ترك الفيلم عند هذه النقطة ونتأمل فكرته، أيمكن حقاً أن نجد متعة في مشاهد حوادث السير؟ ولنعمّم السؤال: هل أصبحت متعتنا محصورة في مشاهدة مشاهد العنف؟


جزء من الإجابة يكمن في طريقة طرح السؤال، في وجود كلمة مَشَاهد التي تتوسط «مشاهدة» و«العنف» أي الاستمتاع بمشاهدة مشاهد العنف، إن كان في السينما والتلفاز وعلى الإنترنت وليس مشاهدة العنف نفسه، بحدّ ذاته، كما هو موجود على أرض الواقع. نحتاج إلى أن نعود، محملين بالقليل من التحذلق، إلى مصطلح أشبه بمفتاح سرّ، وهو «التطهير الأرسطي» لكي نفهم الدور الذي تلعبه المساحة الآمنة التي تفصلنا عن العنف، وهي «المساحة الوسيطة»؛ المنطقة التي تفصل بيننا وبين العمل الفني الذي يتضمن مشاهد العنف. أمامنا بطل القصة الذي يرتكب خطأ تراجيدياً، وفي أغلب الأحيان يكون فعلاً عنيفاً، أوديب يقتل والده ويتزوج والدته على سبيل المثال. تنتهي التراجيديا هنا نهاية مأساوية: يفقأ أوديب عينيه حين يعرف حقيقة ما فعل ويهيم في الشوارع كالمجاذيب. في هذه الحالة، يكون العنف مقبولاً. عنف قتل الأب، وسفاح القربى وحتى فقأ العينين لأن العنف في هذه الحالة تحديداً، ظل في إطار تجريمي، وانتهى فاعله إلى نهاية مأساوية. لا يمكن أن نشاهد العنف في هذا المثل ونرفضه. «يتطهر» المتلقي وقتها من العنف الكامن في داخله، يدرك وجوده في البداية لأنه موجود بداخلنا جميعاً، يتماهى معه، ومن ثم سيرفضه في ما بعد. ليست النهاية المأساوية شرطاً لهذا التطهير الأرسطي، طالما بقي الإطار التجريمي موجوداً، والذي قد يجعلك ترفض خروج البطل التراجيدي سالماً من التراجيديا بدون عقاب.
يبدو أن السينما الأميركية لا تهتم بأي من الهراء السابق وبالتحديد في أفلام الأكشن. لا تتعامل غالبية أفلام الأكشن الأميركية مع العنف من منظور أخلاقي واجتماعي بل ترى فيه، على غرار ما يرى المحاضر الجامعي في مشاهد حوادث السير، فعلاً بطولياً. إذا تأملنا أبطال هذه الأفلام الخارقين، سنجد مشهداً يتكرر دائماً: البطل الخارق مطارداً أحد الأشرار، يخترق النوافذ والمباني وحتى الإسفلت، ثم يقرر رمي سيارة من السيارات الموجودة أمامه على الشرير، ليخرج عندها صاحب السيارة ويكتشف أن سيارته قد تحوّلت إلى خردة. لا ننظر إلى هذا المشهد البسيط جداً وسط الحبكة باعتباره مشهداً مأساوياً بل نراه كمشهد كوميدي لبطولة مزعومة. في أفلام الأبطال الخارقين، لا تثير المآسي الضحك فحسب، بل ننظر إلى «الحدث المأساوي» على أنه حدث تافه، يجلب الكثير من الضحك. قِس على ذلك المباني التي تتحول إلى حطام، وموت الأبرياء، والدمار المفجع، فكل هذه الأضرار تصبح تفاصيل هامشيةً في هذه الأفلام.
تعيدنا سينما الأكشن والأبطال الخارقين إلى افتتاحية فيلم «الضوضاء البيضاء» وإلى وجهة نظر المحاضر الجامعي. فحادثة صغيرة ظاهرياً تُعدّ تضحية هامشية أمام البطولة المزعومة، وليس على صاحب المأساة إلا أن يحتفي بكونه جزءاً من تطوّر «أمته» ومشاركاً في «عيدها الوطني» بكونه أحد ضحاياها، حتى ولو كان من الضحايا الهامشيين. لا يمكن أن نتأمل أفلام الأبطال الخارقين حين ننزع عنها رداء الكومكس والألقاب الرنّانة والأغاني الحماسية إلا ونجدها أفلام حروب في الأساس. هناك طرفي نزاع، لكل طرفٍ جنود وحلفاء، وينشأ بينهما صراع لا تكتمل متعته السينمائية إلا بالموسيقى الحماسية ومشاهد القتل والتدمير. لا يمكن أن تصنع فيلم بطل خارق من دون الاستعانة بالكثير من الغرافيكس. ففي إطار حربي حقيقي يمكن أن نتفهّم وجود مشاهد العنف، طالما أن هذه الأفلام تعترف حقاً بما يحدث فيها، تعترف بأنها أفلام حربية وأن ما يحدث فيها هو مشاهد عنف لها أسبابها الدرامية. على الجانب الآخر، يقدم العنف لنا في أفلام الأبطال الخارقين في إطار الانتقام الفردي، أو أصحاب رؤوس الأموال، أو صراعات أصحاب القوى الخارقة الذين ينقذون العالم، ويتحول السؤال الضروري عن توظيف العنف في الحبكة إلى أسئلة تجارية لا أهمية لها: جودة الغرافيكس، والكوريغرافيا إلخ...
لا يتوقف الانتصار في تقبّل العنف عند الشاشة الكبيرة فقط، بل انتقل إلى شاشاتنا الصغيرة التي نحملها طوال اليوم، هواتفنا الموصولة إلى الإنترنت في ظاهرة منتشرة بشدة على موقع تويتر على سبيل المثال وهي صفحات تحمل عناوين مثيرة دائماً مثل «Insane Reality Leaks» أو «thieves getting f*ckí» أو «People Instantly Repenting» أو«Expensive Fails» والتي يقتصر محتواها على فيديوهات قصيرة لا تزيد مدتها عن بضع ثوانٍ، تكون عبارة عن حادث سير أو مشهد قتل سجلته كاميرا أحد المحال أو انهيار مبنى إلى آخره من المشاهد العنيفة، من دون تقديم أي معلومات عن مكان تصوير الفيديو، ولا السبب وراء هذا العنف الذي نراه، لتجد نفسك خارج إطار التضامن مع طرف على حساب الآخر، أو التأثر بدرجة أكبر إذا كان الحادث في بلدك، أو الشماتة إذا كان في بلد تكرهه، بل الوقوف على الحياد والتفاعل مع العنف بدون تأنيب ضمير. هذا هو الاستمتاع بالمساحة الآمنة التي تفصلك عن هذا المشهد العنيف. تستقبل هذه الصفحات الكثير من المتابعين كل يوم، بحثاً عن جرعة زائدة من الأدرينالين بدون الانشغال بمحاسبة أخلاقية.
لا يمكن أن ننظر إلى هذه الممارسات باعتبارها استهلاكاً من أجل المتعة الآمنة فقط كما يروّج لها صناعها، إذ لا يمكن أن نفصل بين الاستمتاع بمشاهدة مشاهد العنف في السينما وعلى الإنترنت وبين انعكاس ذلك في أرض الواقع، متمثلاً في قبول العنف الذي يحدث أمامنا، والهرب من الالتحام الحقيقي معه، كما يحدث الآن من اعتياد وجود حرب دائرة بين روسيا وأوكرانيا، والانشغال بمواقف تبدو مناهضة للحرب في ظاهرها ولكنها في باطنها مواقف خائبة ليس لها تأثير على الحدث الرئيسي، مثل منع كلاسيكيات الأدب الروسي في بعض الجامعات، أو تجاهل الأفلام الروسية الحديثة، أو الاعتراض على كتاب يتخذ من روسيا مكاناً لأحداثه، وهو ما حصل مع الكاتبة إليزابيث جيلبرت وروايتها الجديدة بعد أن قُبِلَ إعلان نشرها بسخط شديد فقررت الامتناع عن نشرها في الوقت الحالي على الأقل. يبدو أن كتاباً روسياً على أحد الأرفف قد أصبح مخيفاً أكثر من مشهد حيّ لدبابة تدهس سيارة مدنية.