تتكثّف في فيلم «ساحرة الحب» (the love witch) الحالات الشاعرية والمناخات الساحرة، الخوف يمتزج مع الإثارة، والجمال غامض بالفطرة. كأنه بصورتهِ يعود بنا إلى زمن الستينيات، متألقاً بعرضه لجماليات أفلام الرعب الأيقونية ذات الميزانية المنخفضة (low budget) التي ذاعت في تلك الفترة. في الفيلم، كل شيء مُعدّ بدقة. على غرار ممثلات هوليوود «المثاليات»، تظهر البطلة، «إيلان»، التي تمتاز بصوت يقطر بالعسل مثل تعويذة، بعينين زرقاوين لامعتين، وأحمر شفاه فاقع مع مجوهرات أنيقة كثيرة التوهج. في حين كانت تدور فيه النقاشات وتبلغ ذروتها حول مواضيع النسوية والمساواة الجندرية، مالت «إيلان» صوب البساطة، بحيث اقتصر طموحها على تجسيد حالة الحب الخارقة وعيشها. والحب، بالنسبة إلى «إيلان»، يعني خدمة الرجل، والعشق الأعمى.بيد أن «إيلان» تغدو أن تكون تمثيلاً حديثاً للمرأة القاتلة، لا بسبب شعوذاتها وجرائمها الملتبسة، إنما بسبب الإيديولوجيا التي تمثلها وتحياها. فـ«إيلان» فتاة مثيرة، ساحرة، قاتلة متسلسلة ومتهمة بقتل زوجها السابق، كما أنها تدرك مزايا حياتها الجنسية وتعرف كيفية استخدامها. إنها تحمل اسماً ذاتياً في علم التخاطر الذكوري، ولديها خبرة كاملة في إغواء الرجال عبر تجسيد تهويماتهم في أدائها. إنها تغوي الرجل وتتحوّل إلى ما يريدها أن تكون. وهذا أمر جوهري بالنسبة إليها؛ أن تصبح «شيئاً» للرجال الذين تريدهم، أن تقلل من قيمة نفسها من أجل الحب. من هذه النقطة، ينبثق جوهر صراعها الوجودي الحقيقي: فـ«إيلان» فتاة لطالما حلمت برومانسية خيالية مستمدّة من القرون الوسطى إلا أنها أصيبت بصدمة من واقعها. هي استوعبت الخطاب الأبوي لفترة طويلة لدرجة أنها حصدت سعادتها بخلطةٍ غريبة قوامها البحث عن الحب وعيشه مع الألم الناجم عن كراهية النساء. لكن هل الأنوثة السّامة تلك، النابعة من الصورة الحديثة التي تجسّدها «المرأة القاتلة»، تحصد ثمارها الفاسدة النساء فقط؟


تظهر «إيلان» محاصرة بين عقليتين: عقلية نسوية وأخرى تقليدية. إنها تنظر إلى الرجال على أنهم ضعفاء، من السهل التلاعب بهم، معتقدة أن كسب حبهم يشترط بالمقابل وهبهم علاقة جنسية. ومع ذلك، فهي تشعر بأنها عديمة المعنى في حال كانت حياتها خالية من وجود رجلٍ. إن تمعنّا في «إيلان» على صعيد منفرد، أي بمعزل عن سياقها، فسنجدها امرأة تمتلك منطقاً خاصاً بها. سنراها امرأة قادرة، ماكنة، ومستقلة. يتضح ذلك فى مشهد حيث النظرة إلى داخلها تقابلها نظرتها إلى حبيبها. فعلى الرغم من أنها عارية تماماً وهو يرتدي ملابس كاملة، لكن من الواضح أن هذا العراء لا يجردها من قوتها، بل العكس، هو يجرد حبيبها من قوته ويفضحه تماماً كأنه عارٍ. في ذلك المشهد كشف لكل منهما على حدة: هما ينامان معاً، تمسك «إيلان» بحبيبها وهو يبكي بين أحضانها، تضمّه حتى تتعب قبل أن تغادر وهي تتمتم: «يا له من كِس.. يا له من طفل. ظننت أنني وجدت رجلاً حقيقياً لكنه مجرد فتاة صغيرة». وعندما عادت «إيلان» إليه، وجدته ميتاً، ذلك أن قلبه انفطر.
إن تعليق «إيلان» بشأن حبيبها مثير للاهتمام، لأنه يكشف لنا حدود «قلب الرجل» العاجز عن تحمل قدر هائل من المشاعر ذروة واحدة. ثم إن «إيلان» تفضح علناً معادلة معقّدة: فبالرغم من استسلامها للرجل وجعلها لنفسها هدفاً له، إلا أنها تؤكد لنا النزعة التي سادت تاريخياً لدى الرجال، حيث أثبتوا أنهم وجود طفولي شديد الهشاشة لدرجة أن أي رفض لرغباتهم من شأنه أن يحطم واقعهم، وبالتالي، تعطيل حياتهم.
لم تهدف مقاربتنا للفيلم لمراجعته، كما أنها ليست للتعقيب عليه ولا لتقديم قراءة نقدية له، إنما هي مدخل من شأنه أن يساعدنا على فهم صاحبة إطلالة الـ«باربي»: المقدّمة الإعلامية المصرية ياسمين عز، وما يمثله دورها وشخصيتها الإعلامية. ياسمين عز، مقدّمة برنامج «كلام الناس» على قناة MBC، والتي اشتهرت أخيراً بأحاديثها الموجّهة إلى النساء ضمن برنامجها الأسبوعي، تشبه إلى حد بعيد بطلة فيلمنا «إيلان»، على الأقل، في العقلية التقليدية القروسطية التي تجتاحها. فعمل ياسمين عز من أساسه، يفترض تبشير النساء بالطرق اللازمة لإرضاء الرجال. تشرح باسمين عز في برنامجها الأسبوعي للنساء كيف يخدمن «رجالهم». عن ضرورة إغداقهم بالحب وبالدلال حتى ولو جاء ذلك على حساب أنفسهن، في إقصاء كامل لشخصيتهن. لكنّ الناظر في ياسمين عز، سيجدها، في حديثها ومظهرها الذي تتباهى به، «باربي»، شكلاً ومضموناً. إذا كانت تلاحقك مقاطع ياسمين عز الوعظية، المقتطعة من برنامجها «كلام الناس» عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فغالباً ما ستهبّ في رأسك أغنية «باربي غيرل» فور رؤيتها ومجرد سماعها. أساساً، إن كلمات الأغنية لا تختلف عن توجيهات ياسمين لجمهورها من النساء: الطاعة المطلقة للزوج، الخدمة المنزلية، وتمتّع المرأة التي لا تعريف لها غير ربة المنزل بالطاعة، والجمال، والإثارة الـ«بلاستيكية». تظهر ياسمين عز برداء زهري بمظهرٍ يتماهى إلى حدّ الامحاء مع «باربي»، لتمثّل، بكل فجاجةٍ، صورة «المرأة القاتلة الحديثة»، تلك التي حقّقت نفسها في عالم الذكور وباتت تحوز على السلطة والمال. فنصائح وعِظات ياسمين عز تهدف إلى توليد نموذج للمرأة المذعنة لشروط الرجل. المرأة المستلبة عن نفسها، تلك التي لا تنال الرضى الذاتي إن لم تكن «شيئاً» بالنسبة إلى الرجل. وهكذا، تطمح ياسمين عز، من خلال ترويجها للأفكار السامة، أن تكون المستمعة إليها، نسخة مكررة عنها.
في البدء، يمكننا تعريف الأنوثة السّامة بأنها جميع الأفكار والأفعال القادمة من النساء أنفسهن التي تفيد الذكور. الأنوثة السّامة تعني الاستسلام للرجل على حساب استقلالية المرأة، وربط المرأة بالرجل والتسليم بـ«وكالتها» في اعتبار أن المرأة ملحقة بالرجل وتابعة له. يبدو أن الذكورة السّامة التي نحاربها، لا تختلف عن الأنوثة السّامة التي تحاربنا، وكأنهما وجهان لعملة واحدة. السمّ الأوّل يرتكز على القوّة بوصفها التيار الخفي الذي يسمح للرجال بلعب دور عدواني ومهيمن، يضمن بقاءه في السلطة ويعزز مكانته، بينما السمّ الثاني يرسو على دور النساء في سعيهنّ لإرضاء الرجال وتمهيد الطريق لهم لإكمال المَهمة.
تخبر الذكورة والأنوثة السامتان جميع الرجال والنساء أن قيمتهم وفاعليتهم تكمنان في أنهم رجال ونساء، وأنه عليهم التمسك بهذه الأدوار والاكتفاء بها. تعزز هذه التركيبات الاجتماعية سلوك المرأة الخاضع، كما تمكّن الرجل من استعماله للعنف من خلال شرعنته له.
على أن الأنوثة السامة تتكوّن من عدد لا يُحصى من القواعد الخاصة بالثقافة، مثل الترويج للمرأة في أن تكون سهلة الانقياد، وهذا المفهوم ينصّ أن تكون المرأة مستعدة لقبول التعليمات. وتقتضي هذه التعليمات أن تكون المرأة «مرنة» في تفكيرها. أن تعيش في واجب الخدمة فقط. فالأنوثة السامة تفترض أن كيان المرأة هو كيانٌ بـ«الوكالة» فهي موجودة فقط لأنه تم الاعتراف بها، اعتراف جاء من قبل الرجل الذي يمثله الأب أو الزوج. وإذا كانت الذكورة السامة تقوم على العنف والسيطرة، فإن الأنوثة السامة تحفّز الإذعان للعنف والسيطرة، بل تبجلهما، وتعتبرهما فرضاً من فروض «وجود» المرأة. على هذا النحو، نرى ياسمين عز مثل «إيلان»، تروّج للدواء الذي تبيعه الأنوثة السامة للنساء باعتباره مصدر السعادة والوفاء الأبديين: الانغماس المطلق في الرجل، وتسليم المرأة ذاتها إليه. والحال أن نوعية الحب هذا هي أقرب ما يكون إلى العبادة، ما يجعل «إيلان» وياسمين تتوقان، في النهاية، إلى الموت وليس إلى الحب بمعناه الإنساني المعقول.
في الفيديو الأخير لياسمين عز، والذي انتشر بجنون على مواقع التواصل الاجتماعي، تبشّر المذيعة مستمعيها بأخلاق الطاعة، داعيةً إياهم للتمسك بهذه الأخلاق جيداً واعتماد هذه الأخلاق كوصيّة مقدّسة للصراط المستقيم. تشرح ياسمين كيف على المرأة أن تكون مضيافة لزوجها، كيف تكرّمه، وكيف تتعامل معه بوصفه صنماً مقدّساً. هذا ليس غريباً على ياسمين عز، وهو ليس بجديد على خطابها. حتى التصنيفات التي قامت بها، في تسميتها للرجل اللبناني بـ«فينيقي» والمصري بـ«الفرعوني»، في محاولةٍ منها لبعث «الأمجاد» من جديد، فيما المضمر من كلامها هو دعوة مبطّنة لتقديس الزوج والتعامل معه ككائن متفوّق ينتمي إلى سلالة «الأسياد» بينما المرأة تندرج في رتبة «العبيد»، يبقى متوقعاً، ففي النهاية هذا من سمات تفكير الأنوثة السامة، والتي تنعم بها ياسمين عز. إلا أن تماديها الساخط قد تكرّس في دعوتها إلى حذف تاء التأنيث، مُلغيةً بذلك كل إشارةٍ دالة إلى المرأة، لم تسلم منها الصيغ اللغوية حتى. فاستبدال «المنقوشة» بـ«المنقوش» كما ورد في حديثها، ربما يُبرر في الظاهر، بأنه تشجيع المرأة على إظهار كرمها، وتحفيزها على تقديم «الوفرة» ما يوفر «للضيف» شعوراً دافئاً، لكن الحال هنا، أن الحذف هذا، هو تحديداً، حذف المرأة بجوهرها ومن القاموس. إنه «كنسلة» لغوية ووجودية ولا يُفسر بغير طريقة.
إذا أخذنا في الاعتبار تعريفات اللغة، نجد أن الموضوع لا يسير على شاكلة الهراء الذي يُبث على الشاشات، وأن القواعد اللغوية لا تخضع، بصرفها ونحوها، وفقاً لأهواء المذيعة ومزاجها. فابن جني يعرف اللغة بـ«أنها الأصوات التي يُعبر بها كل قوم عن أغراضه». ويشير من خلال تعريفه هذا، والذي يُعتبر من أقدم التعريفات حول اللغة، إلى جانبين أساسيين: الجانب الاجتماعي المرتبط بلغة أفراد مجتمع واحد، وجانب آخر متعلق بصلة اللغة بالتفكير. أما العالم اللغوي النمسوي الشهير، فرديناند دي سوسير، فيعرّف اللغة في إطار مقارنتها بالكلام. يعتبر دو سوسير أن اللغة مرتبطة بالمجتمع، والعرف الاجتماعي (langue)، بينما الكلام (parole) فهو مرتبط بالأفراد والحدث الكلامي. بالنسبة إلى دو سوسير، فإن اللغة هي ظاهرة اجتماعية كونها نظاماً من الإشارات والرموز التي يستخدمها الإنسان للتعبير عن مجمل أفكاره. كما أن جدل بلاغة اللغة في صيغة المذكر قديمٌ بقدمها. ينظر النحاة إلى أن كلمة «زوجة» تغدو أفصح إن حُذفت تاؤها، فتصبح «زوج»، أو مثلما جاء في القرآن الكريم: «وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ». ومهما يكن مقصد النحاة، إلا أن غاية حديث ياسمين عز لا تمت إلى البلاغة بصلةٍ، بل تبلغ مرماها في إجلال لمكانة جنسٍ والحط من الآخر. على هذا النحو، نرى أن نموذج الأنوثة السامة الخاصة بياسمين عز، التي تملي علينا في برنامجها قواعد «الزوجة الخادمة»، ينطوي في الالتزام الصارم بالسلوك الأنثوي النمطي، وفي تعزيز هذا السلوك من خلال العقاب، ولوم النساء الواثقات بأن موقفهن غير جذّاب، وغير عصري إذا كان على نقيض نمط الحياة المعتمد من قبل نماذج مثل ياسمين عز. من هنا، تصبح هذه النماذج، وعلى رأسها ياسمين عز، نموذجاً لـ«المرأة القاتلة»، فهي تقتل الجميع سواها، ذلك عبر فرضها لقيم تتّسم بالاستلاب والطاعة والعبودية. ياسمين عز فتاة «باربي»، تعيش فى عالم بلاستيكي، خيالي، لا يتصل بالواقع بصلة. عدا اليد الملطّخة بالدم، فهي لا تتميز عن «إيلان» بشيء. الاثنتان تعيشان في عالم فانتازي، الاثنتان تقتلان، تكرهان نفسيهما، كما أنهما تحتاجان إلى الكثير من الحب.