نزور أماكن اعتدنا أن نزورها. نقابل أشخاصاً عرفناهم بعد أن باعدتنا المسافات. نتذكّر أشخاصاً غادروا ولن يعودوا مجدداً، وأماكن تركت آثارها فينا لم يبقَ لنا منها سوى الذكرى فحسب. نحاول أن نتمسك بهذه الذكرى قدر الإمكان، أو كما يقول رومانو في فيلم باولو سورنتينو «الجمال العظيم»: «ما الخطأ في أن نشعر بالحنين؟ إنه الإلهاء الوحيد لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالمستقبل». رحلتنا عبر الحياة، تشبه «فيلم الطريق» Road Movie أو الأوديسا. هي رحلة لا تختلف كثيراً عن أوديسا هوميروس، نبحث خلالها عن المنزل، عن «البيت»، حتى إنه إذا شعرنا أن رحلتنا أقصت عنا لذة المغامرة وحسّ التشويق وانتابنا بدلاً عن ذلك القلق، فسرعان ما نشعر بأنه علينا «العودة إلى الديار». نشيح نظرنا عن الوجهة المقصودة، ونستبدل الاكتشاف المرجوّ من الرحلة بالانعتاق، لنبحث عندها، عن الانصهار مجدداً مع ذلك الذي مضى، أي التوحّد مجدداً مع الذكرى. نصمم على العودة إلى «الخلف» عوضاً من الانجراف إلى نقطة الوصول. وكأن «البيت» حتى ولو كان مبنيّاً على المجاز، مصنوعاً من «الذكرى»، يبقى موجوداً، وما إن نلمح ظلال الأزمة حتى نكتشف ماهية بيتنا، أو على الأقل، ما لا نريده أن يكون بيتنا. عموماً، إنها النوستالجيا التي تجعلنا نشعر دائماً أننا في بحث دائم عن «عودة» لا عن «إيجاد»، وأن لنا بالفعل مكاناً معيّناً ينتظرنا وأشخاصاً يعرفوننا جيداً، ينتظروننا بالرغم من غيابنا الذي يبدو أبدياً. لكن النوستالجيا هي ذلك النفق المسدود مهما بدا مضاءً، وهي اغتراب متأصل يصعب الانفكاك منه مع الوقت.

(تصميم: فرانسوا الدويهي)

في عام 1982 اجتمع المخرج السويسري ألان تانر مع الألماني برونو جانز والبرتغالية تريزا مادروجا ليتفقوا على كتابة سيناريو فيلم «In the White City» وقد أنتج المشروع في العام التالي. الفيلم يحكي ببساطة قصة مهندس محركات، يبيت على متن سفينة واسمه بول (برونو جانز)، لكنه قرر أن يترك سفينته ليتجه إلى لشبونة ويبدأ بحياة جديدة بعيداً عن زوجته. يقابل بول عاملة الفندق روزا (تريزا مادروجا) وتبدأ عندها رحلة جديدة لهما.
يستعير الفيلم، وبكل وضوح، ثيمته الجوهرية من أوديسة هوميروس. فالبطل مهندس يعمل على سفينة طوال الوقت، تماماً كأوديسيوس العائد من حرب طروادة على متن سفينته، وزوجة بول مثل بينولوب تنتظره ومن دون ملل. لكن الفيلم يستلهم موضوعه من مصدر آخر أيضاً، وهو حياتنا اليومية، والأحداث التي تحدث معنا، ليصنع من هذه التجارب المُعاشة أوديسا مغايرة، أي لا تبحث عن الانعتاق في «العودة إلى الديار» بوصفه المساحة المألوفة التي اعتدنا عليها، بل انعتاقاً يمسّ المعنى. يلتحم المنعتق مع بيته الحقيقي الذي اكتشفه، ليصبح بانعتاقه هذا، ساكناً في بيته الحقيقي، وبالتالي، حرّاً.
إن بول يعاني من اغتراب روحي جرّاء بيئته الطبيعية، من بيته، أي السفينة التي يقضي فيها جلّ وقته، ومن أشخاص يعرفهم ويعيش معهم، (العمال/الزوجة). لكنه عندما أدرك ذلك، قرر أن يفتعل «اغتراباً مكانياً» لكي يحوز على نفسه ويلقى خلاصه. على هذا النحو، قطع بول الأوصال مع محيطه، مع ما هو مألوف حد الرتابة برغبة البحث عن مكانٍ آخر يتماهى معه، مكان يشبهه، يمنحه ما يبحث عنه ويعيد له لذة الرحلة، مذاق الحياة، فيكون بمثابة البيت الحقيقي له. يتخلى بول عن سفينته إذاً، ويذهب إلى لشبونة التي لا يعرف من لغة أهلها شيئاً ولا يسكنها أحد من أصدقائه، مثلما نفعل نحن حين نقرر أن نترك بيئتنا المعتادة، «البيت الموروث» أي المكان الذي ولدنا وترعرعنا به، وشاءت الظروف أننا لم نجد أنفسنا فيه، فترانا نلحق بهويتنا وخياراتنا لنبحث لنا عن بيتٍ جديدٍ يمنحنا الحرية أو يمهد لنا الطريق إليها.
لا تختلف رحلة البطل إذاً عن رحلتنا في الحياة. رحلة البحث عن الآخر، ليس «النصف الآخر» كما يسميها البعض، أو ذلك الذي «نرى أنفسنا فيه»، إنما الآخر الذي سيتقبلنا ونتقبله كما هو عليه، لأننا مثل بول: أوديسيوس قرر الخروج من بيته الموروث ليجد بيته الحقيقي، لا بيته المفروض عليه، ذلك الذي ينتظره على الجانب الآخر من البحر، بل بيته الذي اختاره بعد تفتيشٍ حثيث.
لكن رحلتنا ورحلة بول ليست مثمرة في معظم الوقت. فهي باعتبارها لا تبحث عن مكان مادي، بل عن معنى، والثاني هو القبض على المُراد منه، وهو متغيّر طوال الوقت، فمن الممكن أن يبقى منفلت، ضائع، يشترط علينا أن نكون هائمين في بحثٍ مستمر عنه إلى حين وصولنا لتلك الحالة التي عبّر عنها بطلنا حيث قال: «أشعر أنني بخير. أنا حر. لا أفعل أي شيء. لكنني لست في عطلة. حين تكون في عطلة ترتب وقت فراغكَ. أنا لا أفعل ذلك».
إن الاغتراب المُصاب به بول يفضح لنا مسألة بغاية الجديّة. ينكشف اغترابه جليّاً في مشهد التقائه بتريزا للمرة الأولى، حيث يرى بول الساعة على الحائط وهي تدور بعكس حركة العقارب، وكأن الزمن يتحرك إلى الأمام فيما تنتظره زوجته المتمسكة بذكرياتها معه وهو في منتصف الزمن، أو خارج عن الزمن، تماماً كما نشعر نحن عند اغترابنا عن أيامنا الفائتة، فتتحول الذكريات التي تكمن في مخيلتنا إلى صورٍ رومانسية عن تلك الأيام، ما يجعلنا منفصلين عن حقيقة ما جرى وعن حقيقة حاضرنا. على هذا الشكل نتمسك ببيوتنا الموروثة، نبقى في مساحاتنا الآمنة، ونتقبل الاغتراب الناجم عن هكذا خيار عوضاً عن اللحاق ببول وأخذ القرار بـ«الاغتراب المكاني» كالذي اتخذه، ذلك لنستعيد أنفسنا ونتخلى عن سطوة المكان الذي لا يمكن النجاة من وطأته.
هو اغتراب وجودي إذاً، لا يقوم على المكان حصراً بل على المعنى عموماً. اليوم لا يمكن أن نجلس في مكان لا توجد فيه كهرباء لأننا ببساطة محاطون بالآلات: الهاتف، التلفاز، مكيف الهواء، ماكينة القهوة إلخ. إننا ببساطة نعيش لندير مجموعة من الآلات. هذا بالضبط ما شعر به بول، وهو ما جعله يترك بيته/ السفينة. وفي حين تذمرت تريزا من سفره طوال الوقت، كان بول يرد عليها بأنه محاط بالآلات. هو مثلنا مجرد ترس، مهمته تشغيل هذه الآلة واستهلاكها، بيد أننا جميعنا في الواقع، تحت وطأة هذه الآلات، مكبلين بوجودها، نعتقد أننا نشغلها ونستهلكها بينما هي تفعل هذا ونحن ننضوي تحت سلطتها.
يحاول بطلنا أن يحقق حالة من الوجود الضبابي. حالة أشبه بالمغادرة قبل الوصول، وهو ما قد نفعله حين نتجنب توسيع دوائرنا والمحافظة على قدر ضئيل وضيّق من العلاقات. حالة من العزلة فرضتها علينا حقيقة اتساع العالم حيث بات يمكننا ببساطة التحكم بعوالمنا عبر ضغطة إصبع على هواتفنا. هذه الحالة الضبابية هي في الحقيقة وسيلة بول لأن يجد نفسه، أن يقلل، قدر الإمكان، من مساحة الصورة وأن يبحث عن نفسه فيها.
لا يمكن أن نتحدث عن لشبونة دون أن نذكر سيد الاغتراب، الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، والذي يتضح تأثيره على الفيلم بشكل كبير. ففي كتابه «اللاطمأنينة»، والذي نُشر بالمناسبة في نفس عام إنتاج الفيلم، يقول: «ألا تعرف أي شيء عن نفسك معناه أن تعيش». وهذا بالضبط ما يحاول بطل الفيلم أن يفعله، أن ينزع نفسه عن نفسه، أن يعيد اكتشاف ذاته متجرداً، ليس من الماضي فحسب، بل من الحاضر وإرثه.
إذا كان «الوصول إلى البيت» بالنسبة إلى بول هو محاولة لبناء ذاتٍ جديدة، تبقى بالنسبة إلينا نحن، وفي واقعنا العربي اليوم، على مستوى محاولات مقدّر لها بالفشل محصورة في التأقلم مع بيوتنا الموروثة، لأننا ببساطة عاجزون عن مغادرتها. البيوت الموروثة عندنا ليست رموزاً تحيل إلى الأماكن فقط، بل إلى كل ما يُفرَض علينا منذ ولادتنا، من عادات وثقافة وسفن، يجب أن نخرج منها، ونبحر بدلاً من ذلك، إلى المستقبل. أو أقلّه وجب تصويب الرؤية إلى الأمام فالاكتشاف، وليس إلى الخلف في تمسّك ملحّ للانعتاق.