لطالما كانت السينما ذات وقعٍ ليلي، سماء سوداء تستنير بشُعاع ضوءٍ شاحب يتشكّل في تحولاتٍ وصور لا نهائية، في غُرفٍ مُغلقة، جُدرانٍ معزولة، ظلامٍ دامس، وخط ضوءٍ خلفي يخترق الهواء مثلما يثقُب القمر قلوب العاشقين. تتمتّع بعض الأفلام بحياةٍ ليلية، بإرادة مُستقلّة؛ حيث يملك الفيلم حضوراً مُضاعفاً في السهرات، أو يتحلى بنبرة مسائية، تفوح منها رائحة الظّلام… أما محاولة تفكيك مشاهد تلك الأفلام فتُحيلنا إلى تمظهرات اللّيل داخل السرديّات، الليل المخادع ــ الليل المجاز، كيف يخدم ذاته ويُحقّق المُخرِج من خلاله مُنتجاً يتجاوز الصورة السطحية للشكل، كيف يُمكن أن يتغير المشهد كُلياً إذا تزامن مع نور الصّباح؟
ظلمات السؤال والدهشة في «حدث ذات مرة في الأناضول» (2011)
اللّيل مجاز الظلام، والنهار مجاز النور. هناك تعارض ظاهري بينهما، إلا أن كل لفظة منهما تحشد داخلها عدداً غير نهائي من المعاني. يحمل الظلام نهارات مُجزّأة، وشموساً صناعيّة، وأقماراً كهربائية. يوفّر الليل طبقات من العتمة بكُل ما تضمره من أفعال قائمة على التخفي والحجب والكتمان؛ ويمنح الأفراد القُدرة على خلق تكوينات عاطفية، وأشكال جديدة للبوح. المخرج التركي نوري بيلغي جيلان يؤسّس سرديّته فوق الظلام، ويختزل العالم داخل آلية ليلية.

مشهد من «حدث ذات مرة في الأناضول» (2011) لنوري بيلغي جيلان

يظلّل الغموض فيلمه «حدث ذات مرّة في الأناضول» (Once Upon a Time in Anatolia) الذي يدور نصفه الأول في غياهب الليل بأحد مروج تُركيا المُهمّشة، حيث تبحث الشُرطة، بناءً على اعتراف الجاني، عن جُثّة مدفونة. اللّيل هُنا يحضر كفاعل داخل النسق السردي، فلفظتا الليل/الظلام بما تختزلان من مفاهيم وعواطف مُلتبسة، تُضاعفان الوطأة. لا يقتصر ذلك على المزاج اللوني فحسب، إنما على وعي الشخصيّة بجُغرافيّة المكان وإحساس الجاني بخطيئته التي يتقدّم نحوها في العتمة. يحتاج الفرد إلى النهار المُزيّف حتى يتسنى له الانهيار داخل ذاته والإيغال في ذنبه. غالباً ما يكبح اللّيل العواقب حتى بزوغ النهار، ورُبما تبدو الاكتشافات التي يحظى بها الأفراد في اللّيل مُجرّد اكتشافات سطحية. بيد أن نوري يُدهشنا في مشهد داخلي ليلي، حين يُقرر المُحقّق وفريقه الاستراحة حتى الصباح في إحدى القُرى المجاورة، وفيما يتناولون الطعام تنقطع الكهرباء. يُرسل لهم العُمدة ابنته التي تدخل وهي تحمل وعاء مُسطّحاً، يتوسّطه قنديل تحيطه أكواب الشاي. يُنير ضوؤه الشاحب الطريق لها، ونور القنديل لا يُمثّل الخاصيّة التي تخلق مجازاً للأمسيّة؛ بل وجه الفتاة؛ فالأنثى بمثابة الصّدمة، الجرح الغائر في جسد الليل الطاغي الذي يُراكم ذكوراً. هي من يحمل أكواب الشاي، وتُمرّرها إلى الأفراد المستلقين بجانب الجدار، ليتجاوز أثرها مفعول الليل ذاته، بزمانه اللانهائي وتتلاشى الغمامة السوداء فوق أعين الأفراد حين ينظرون إلى وجهها الجميل. وفي تلك اللّحظة، يسمح المُخرِج للمشاهد أن يغوص داخل الشخصيّات، فالجمال يتخطى الذنب والواجب يدعو إلى التطهّر. براءة التحديق الأولى تغسل النفس المُثقلة بالذنوب والمثخنة بالجراح، فنُتابع ردود فعل خاطفة على وجوه الجالسين، ولكنّها مُعبّرة وكاشفة، كأن المسيح يطفو وينفُخ الدهشة فوق الرؤوس. استعاد الدكتور كمال ذاته للحظات؛ نظر إلى النور، هو الذي اعتاد المكوث في قاع هوّة اليأس والعدمية، ذُهِل المُدعي العام نصرت، وتكثّف الضباب أكثر حول مفهوم وماهيّة المرأة لديه، اضطرب المُشتبه به الثاني فيما ارتعش الجاني كنان أمام الجمال الأنثوي، وشعر بحاجته إلى التطهّر حتى يتسنى له بلوغ تلك الدرجة من البراءة. والحقيقة أن ليل جيلان مساحة للسؤال والدهشة، فيما يتصل النهار بالإجابات والنهايات، والمرأة بمثابة النور؛ وسط سيقان الرجال الليلية وسواعدهم السوداء، حيث ظلام الأمسيات ينمو على أجسادهم، والظلام نفسه الذي يلفّ المشهد يمنح الفتاة سحراً مُضاعفاً لدى اقتحامها تلك الغرفة القلِقة. يُكثّف المشهد الخوف في مفهومه الأكثر فطرية، الخوف من العتمة، يتبدى في العيون مع ظهور وانبعاث النوّر، فالضوء الشاحب كان بمثابة شبحٍ لأوهام الرجوع عن الخطيئة أو الغُفران، هذيان الأمل اللحظي الكاذب بين براثن اللّيل الجوهري.

صرخة مدوّية تُحاكي همجيّة العالم في «تناغمات ميركمايستر» (2000)
يراوغ بيلا تار دهشة الألوان، مُظهّراً برودة الرمادي في نزعة تميل إلى الأسود العدمي. تجربة مُشاهدته موازية لليل لا ينقضي، فشريطه الأبيض والأسود وسرديته التشاؤمية يكثّفان لمشهديّة لا تفرّق ليلها عن نهارها إلا من خلال بصيص ضوء شمسي تتلقاه الوجوه الشاحبة ولا تمرّره إلى النفس. للنهار وقع ليلي، ومزاجٌ أبوكاليبسي يدنو ببطء ليشمل العالم. هكذا يخلق المخرج المجري عوالمه، في فيلم «تناغمات ميركمايستر» (Werckmeister Harmonies) الذي أخرجه مع زوجته أغنيس هرانيتزكي. يستثمر الخصائص السينمائيّة في تجربة من أشدّ سردياته كثافة. يتّجه الإنسان نحو الهاويّة، هذا ما تُلمّح إليه إشارات تخلق مع الوقت نبوءة صوريّة.

مشهد من «تناغمات ميركمايستر» (2000) لبيلا تار وأغنيس هرانيتزكي

نبوءة لا وجود لها داخل الحيّز التاريخي، ولا تنتمي إلى اللاهوت أو الفولكلور والأسطورة، بيد أنها تحضر من خلال محاولات تأويل الفرد لمكانته داخل المجتمع والعالم. تلك المحاولات نجد لها مكاناً في الصباح، حيث تدور النقاشات حول مُستقبل البلدة، ويرصُد المُخرِجان بطلهما لدى قيامه بأفعال صباحيّة اعتيادية: يحضّر الطعام، ويجلب الجرائد. هكذا يضعنا الفيلم داخل الواقع الاجتماعي للفرد، ويؤطّر تلك الظروف ليُحيلها إلى مخلوقٍ بحري ــ الحوت ــ الذي يُعرض داخل مقطورة ترفيهية. يخلق مرجعيّة مُزيّفة وخرافيّة لكُل تلك الأوضاع، تقول بأن الحوت فائل شر يجلب معه الخراب. صباحات الفيلم هي مجرّد وسيط لتكثيف الخوف وحشد التوتر، ولكن من دون ردة فعل حقيقية؛ ليكون اللّيل بمثابة انفراج شعوريّ صاخب، تنفيس عن الغضب الذي يحفّزه النهار. تظهر تلك الإحالة في مشهدٍ ليلي، حين يحتشد أهل البلدة في فورة غضبهم ويمضون نحو أحد المصحّات، ويشرعون في مُمارسات عدوانيّة مُفرطة، بأسلوب اعتباطي غير مبرر خارجياً. يزُج بنا المُخرِجان في ليلٍ مشحون بالعنف، ليكون بمثابة الصحوة الكُبرى والصرخة المدوّية التي تُساير همجيّة العالم واستبداده. واللّيليّ مسرحٌ للحدث، يحتضن الأفعال مهما كانت متطرّفة بنمط بصري شاعري، يوغل في دواخل الذات. بعد أن انصرف الناس وفي عيونهم النّدم بمقدار الشفقة، على إثر رؤيتهم لشيخٍ عارٍ داخل حوض استحمام في إحدى الغُرف الجانبية؛ جرّت العُصبة الوحشيّة ذيول الجريمة، تعرّت أمام خفقان الضمير، حملت ــ حرفياً ــ ظلاً ليلياً ثقيلاً، ينطوي على الذنب والخطيئة. طُبِعت ظلالهم على الأرض، يحاولون جرّها وراءهم، كأنها هي الإثم، فيما يترنّحون في أجساد خاوية، مجوّفة. إنهم حصيلة نوبة جنون، تداعيات ظروف مُريعة، ضحايا واقفين على العتبات، محرومين من الولوج إلى الشّر المُطلق أو الخير الكُلّي، مطوّقين بدائرة متنها الخوف والذعر. الظِّل في الفيلم لا يختبئ وراء عتمة الجسّد، بل يُطاردها، يسحب الروح داخل كُتلة الظلام. مع المتوالية المشهدية، سنرى مدى تأثير طُغيان عُنصر اللّيل/الظلام في تكوين مجمل الحالة، ليس على المستوى الجمالي فقط، إنما على المستوى العاطفي والبنيوي. فالليل يصلح لأن يكون ساحة لاقتراف أفعال مُلتبسة، فهو مُلتبس في ذاته، كثيف في طبقاته، يُغطي ويحجب، لا يكشف ويُعرّي إلا في متوالية كتِلك التي يُمكن ربطها داخل السياق بشكل جذري. يتحوّل الليل إلى لوحة فنيّة تعبيرية، تُجسّد مُعضلة الخروج من الهوّة، وتُبرِز المُعاناة التي تُخلّفها الظلمة كوسيط حاضن للعُنف والغضب والخراب.

الليلي كجسدٍِ عاهر ومُثقل بالجراح في «الأبدية ويوم» (1998)
ينغمس «الأبدية ويوم» (Eternity and a Day) للمخرج اليوناني ثيودوروس أنجيلوبولوس في حُمّى نهارية، ويغرق برقّة في صباحاتٍ تمكث قُبالة أزرق البحر؛ بماهيّته اللانهائية وزمنِه السائل وإرادته الكُليّة. يأتي المساء في المقابل، أسود ومُغبّراً بالواقعي والحقيقي. يخلق أنجيلوبولس في تُحفته السينمائيّة مرادفاً للأبدية كمعنى مُحاذٍ للنهاري، كلفظة ووجود مادي، حيث يرصُد مثول النهاري على ميزان الذكريات والرؤى الروحيّة. لكنّه على الجهة الأخرى، يُقدّم اللّيلي كامتداد طبيعي أقل رقّة وأكثر حركة لناحية المستوى الواقعي. يموضع أنجيلوبولوس الليل في سياقه؛ كنقيض للأبدي والخُرافي، حتى الأماكن ذاتها ستكتسي بجوهر مُختلف داخل ثُنائية الليل/النهار، الأبدي/اليومي، التي تُحدث أيضاً تحوّلاً في مُعطيات الوجود وخصائصه.

مشهد من «الأبدية ويوم» (1998) لثيودوروس أنجيلوبولوس

يتقيّد الفيلم بزمنٍ حقيقي ومكان ملموس ومرصود بأعين خارجيّة وأفراد عرضيين. يظهر هذا من خلال حركة الفيلم في المضمار النهاري لأكثر من ساعة، ثُم الهبوط في الأمسيات الكاشفة للمعنى. فِعل الموت ذاته يحمل تأويلات متباينة ليلاً ونهاراً، ما يرصُد قيمة المجاز داخل سينما أنجيلوبولوس، خصوصاً في ترجمته للأزمنة الجُزئية داخل اليومي. فالموت حاضر في كل أركان السردية، بيد أن وجوده يأتي كلفظة رقيقة، ضمن أبجديّة النهار وتلميحاته الخاصّة بعيداً عن القطعي والنهائي. في المقابل، يُرتَكَب الفِعل بصورته الأكثر قسوة داخل الحيّز الليلي حيث يحضر الموت بعواقبه المروّعة. نُراقب بعين المُتفرج الساذجة ما يُمكن أن نراه في اليومي، الموت في نمطه السائد، صبي من صبية الشارع يرقد على سرير طبي في مشرحة، فيما يتأمله صبيٌّ آخر، ويلملم حاجاته، ثُم يحشد ثلة من الصبية الآخرين، ويُمثّلون طقساً تأبينياً ومراسم جنائزية على هامش الوجود الإنساني داخل عواميد وأذرع إسمنتية. ينتصبون جميعاً كظلال مُنتحبة تُناجي الروح المحجوبة المُحلّقة إلى أعلى، حيث النهار اللانهائي. وفي مشهد آخر يختزل شموليّة الليل والظلام، يستقلّ آليكساندروس والصبي إحدى الحافلات. وضمن إطار مكاني محدود يشتبك المخرج مع الواقع بلقطاتٍ شاعريّة، تلك اللحظات التي تُسلّم نفسها إلى العشوائية، وتنغمس بكُليّتها في نسق إنساني اعتباطي. لذا فالنموذج الليلي عند أنجيلوبولوس، يستعير الضوء كصورة في الحافلة أو كانبعاث من عواميد الإنارة بعيداً عن هويّته النهاريّة. أما الظلام ومجازاته، فتحمل داخلها واقعاً أكثر قسوة من الرؤى المُقدسة التي يلجأ لها آليكساندروس في الصباح. إن الليلي كجسدٍِ محسوس، عاهر، ومُثقل بالجراح البائنة يُمثّل البؤرة التي تتلقّى الصدمات في هيئتها الحادة والمؤلمة، حيث لا يوجد مكان للشِّعر إلا في أصوات أو صور عرضيّة داخل الحافلة، كأثر جانبي، فيما يقبع جسد القصيدة الوهمي كُله في النهار، حيث تتآلف أفواه الشُّعراء مع نغَمِ الذكريات، في الأبدية، بعيداً عن اليومي. اللّيلي في صوره الأكثر شاعريّة لا ينفلت خارج الملموس/اليومي إلا في خفقات عابرة، مثلما ظهرت صورة الشاعر في الحافلة، سُرعان ما تلاشت، لأن جرح اللّيل لا يندمل، ولا يملك حصانة الشِّعر والقصيدة.