«الفن ليس الحقيقة...إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة» هكذا لخّص بابلو بيكاسو رؤيته إلى الفن، وهو ما يتوافق مع ما نريد الإشارة إليه. يشهد عالمنا اليوم ارتفاع مستويات البحار وذوبان الأنهار الجليدية وأنماط طقس متضاربة وأعاصير مروّعة وفيضانات جارفة وزلازل مدمّرة، بحيث أصبحت الظواهر الجوية المتطرّفة حول العالم أكثر حدّة وتكراراً. فأزمة المناخ هي تهديد من أكبر التهديدات الإنسانية التي تواجه المجتمعات في جميع أنحاء العالم حالياً.

(أعمال الفنان ألبير دوستال)

ارتفعت حرارة الأرض إلى «العتبة الحرجة» كما تم وصفها، بحيث يجب أن لا يتعداها العالم لتجنب تفاقم الآثار المستقبلية. في الوقت نفسه الذي يدقّ فيه العلماء ناقوس الخطر، يقرع الفنانون جرس الإنذار ليصبح الفن «صرخة حياة» لإنقاذ ما تبقّى، ومحاولة بث روح الوعي لتغيير الواقع القبيح الذي يسيطر على الإنسانية.
تخيّل... لو ذابت لوحات المتحف في أشد أيام الصيف حرارة! تخيّل، من وجهة نظر الفنان السويسري ألبير دوستال، كيف ستبدو اللوحات لو ذابت معلقة على جدران المتاحف في يوم صيفي حار جداً، في إطار سريالي بأبعاد ثلاثية تتحدى الواقع وتلاعبه في الوقت نفسه. وهو تصوّر ينذر بكابوس على الأقل لأمين المتحف المؤتمن على كنوز لونية تتراقص لوناً وظلالاً معلقة على جدار، وتحف فنية تذوب بسبب نقص مكيّفات الهواء.
هذا العرض لدوستال حمل عنوان «معرض فن ساخن» ويظهر تدمير بطيء للغاية لأشهر الأعمال الفنية في تاريخ الفن: ماغريت، دالي، موندريان وغيرهم من الفنانين الذين تحولت أعمالهم إلى برك تسيل ألوانها على أرضية المتحف. يحثنا هذا المصمم الرقمي على تخيّل ما يمكن أن يحدث للفن الأكثر شهرة في العالم إذا تم إيقاف تشغيل مكيّف الهواء. يواجه هذا العمل الفنّيّ الجمهور مع أزمة المُناخ، إنّها دعوة تفاعليّة قويّة بينها وبين المشاهد لحث وعيه على المشاكل البيئية والطبيعية التي تواجهها الإنسانية اليوم.
«معرض فن ساخن» هو عمل يدمج الوسائط الديناميكيّة مع الفنّ وتكنولوجيا الفضاء الثلاثي الأبعاد، ويهيّئ المشاهد لرحلة تمكّنه من الانتقال من الواقع الحقيقيّ إلى الواقع الافتراضيّ ويثير تساؤلات حول تأثير التكنولوجيا على التعاطف البشري من خلال التفاعل مع قضيّة تواجه عالمنا وتتجسّد بأزمة المناخ.
إنها فكرة مروعة، فن صادم، يخلق عالماً عبثياً ومثيراً للسخرية. عالم يغوص في الغرابة والتناقض، هو عالم الصراع الدائم بين وعي الإنسان وعقلانيته من جهة وعبثيته بعدم خضوعه للمعايير التي تضمن سلامته واستمرارية حياته من جهة أخرى. وقد نقل الفنان ذلك من خلال الروائع الفنية التاريخية وأعطاها انطباعاً بالذوبان مسجّلاً من خلالها التأثيرات للاحتباس الحراري وخلق الوعي بشأن تغير المناخ. يقول الفنان: «أودّ أن أصف عملي بأنه جمالي وغريب بعض الشيء، فيه روح الدعابة والقليل من السخرية، ولكن غالباً لديه جوانب قصصية».
تمكّن دوستال، الفنان المتعدد الوسائط من استخدام هذا الكابوس كمفهوم وهو في حقيقة الأمر وسيلة تعبيرية نقلت البيئة الفنية إلى مستوى متقدّم، معتمداً الفن الرقمي الثلاثي الأبعاد. يوهم فيه المتلقي بأنه موجود فعلاً في بيئة العالم الافتراضي التي اخترعها الفنان، وهو بذلك لا يسعى إلى إحالته إلى واقع خارج أبجديات التشكيل، إنما بات تركيز الاهتمام حول العمل الفني وحده، وأصبح السعي لوصول المعنى إلى قلب المتلقي وإحساسه بمنطق الفنان لا بمنطق الواقع. اعتمدت لغة دوستال خروجاً متعمّداً وفضفاضاً عن القواعد المعتادة وتحويل الألفة إلى غرابة، هذا التغيير في المفاهيم قاد إلى التحول والنضوج في الثقافة الإنسانية من أجل البحث عن خيارات جديدة، مع ظاهرة الاحتباس الحراري والحاجة الماسة إلى حماية تراثنا الثقافي من آثاره، من خلال طريقة التعبير عنها بإحياء النظرة التبادلية بين الفن والمجتمع.

(أعمال الفنان ألبير دوستال)

لا بد من اتخاذ قرارات شجاعة وجريئة، والأهم ملزمة ووفق سقف زمني لدول العالم، وخصوصاً الصناعية منها، وصولاً إلى حلول عملية للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري وخفض انبعاثات الكربون، والوصول كما ترى الأمم المتحدة إلى الحياد الكربوني في عام 2050.
الأمن البيئي ليس ترفاً فكرياً، كما يحلو للبعض منا تسميته، فالجدير بنا نحن من نعيش على هذا الكوكب المحافظة على أبسط قوانين الطبيعة لتستمر الحياة. وما سنفعله على مدى الخمسين عاماً المقبلة، بحسب الخبير والمؤرّخ البريطاني المتخصّص في الطبيعة، السير ديفيد أتينبورو «سيحدد مصير كل أشكال الحياة على هذا الكوكب». لكن يبقى السؤال الأهم في النهاية: هل يساعد الفن التشكيلي بطرحه المشكلات على إثارة الجمهور تجاه أزمة المناخ أم أن الجمهور يؤكد لامبالاته تجاه واقعية تلك المشكلات؟ هل سيكون الفن وسيطاً ناجحاً في جذب انتباهنا اليوم لكي نغيّر نمط حياتنا، ولكي ندرك بأنه ليس في كوكبنا ركن بمنأى عن الآثار المدمرة لتغير المناخ؟ ما يمر بنا من أزمات سواء أكان حرباً أم مجاعة أم كوارثَ طبيعية، فإن الأولوية الأهم لمعظم الناس هي ببساطة البقاء على قيد الحياة، مهملين خطورة ارتفاع درجات الحرارة وهي السبب المباشر للتدهور البيئي والكوارث الطبيعية والأحوال الجوية القصوى، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، والاختلال الاقتصادي والنزاعات.
نحن نعلم أن هناك العديد من الأمثلة على الأعمال الإبداعية التي تجعل الناس يتوقفون أمام مخاطر تغير المناخ والكوارث، ويُعملون الفكر فيها، ويشاركون في التصدي لها، بعدما صارت موجات الحر الشديد والجفاف والأعاصير بجميع أنواعها تنشر الدمار في جميع أنحاء العالم.
بإمكان الفن أن يكون مصدر إلهام للبشرية للتفكير في مخاطر الكوارث والقدرة على الصمود في مواجهتها بطرق لا يستطيعها العلم والبيانات والأرقام. لقد وصف ليوناردو دافنشي الفنون بأنها «تاج العلوم، فهي تنقل المعرفة إلى جميع الأجيال في العالم». وبإمكان المشاعر التي يثيرها الفن أن تنقل شعوراً بالحاجة الملحّة للحيلولة دون وقوع الكوارث والتأهب لمواجهتها.