تبدأ رحلتي اليومية على النحو التالي: أخرج من منزلي كل يوم عند الساعة الثامنة صباحاً، وأنتقل من ميكروباص إلى آخر متوجهاً إلى محطة أوتوبيس هيئة النقل العام. أركب في الأوتوبيس وأتوجه إلى القاهرة لأصل، أخيراً، إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب. عند البوابة أسلم بطاقتي التي تعرّف بأنني من المياومين الذين يعملون في المعرض. بعد التأكد من هويتي، أدخل إلى ما يشبه الشارع الطويل، ممر مزدحم بالعمال يجرّون عربات النقل، كل واحد منهم يحمل صناديق كتب، وهناك مجموعات شبابية، هم بالمبدأ طلاب جامعات، يعملون في المعرض في أوقات فراغهم أو بدوامٍ جزئي، فدور النشر تتعاقد مع هؤلاء لرخص أجورهم وعدم خبرتهم في سوق النشر. أمام أبواب القاعات الخلفية تجد عمّالاً يرتدون ثياباً كالحة اللون، مهمتهم جرّ عربة مليئة بعواميد التركيب أو للمساعدة إن احتاجها أحد بمقابل أجر زهيد. داخل القاعة، الجميع مشغول بالتحديق في الكتب أو في المشي. أمشي بدوري وأنظر إلى الكتب المتراصة على الأرفف، وعلى البوسترات الدعائية المعروضة، حتى أصل إلى الجناح الذي أعمل فيه. عندها، أستعدّ للوقوف طويلاً، وتبدأ أحاديثٌ لا تنقطع مع مئات الأشخاص على مدى النهار الكامل.

تاريخ موجز
عام 1956 أُقيمَ في بيروت أول معرض كتاب عربي وتوالت من بعده معارض الكتب العربية. يُعدّ معرض القاهرة الدولي للكتاب من أكبر معارض الكتب في الشرق الأوسط، في عام 2006 اعتُبر ثاني أكبر معرض للكتاب بعد معرض فرانكفورت الدولي. مئات دور النشر المصرية والعربية والأجنبية تشارك كل سنة في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يستقبل أيضاً ندوات ثقافية وفنية، وعروضاً مسرحية وسينمائية، كما يستضيف معارض تشكيلية وعروضاً موسيقية مختلفة، ليبلغ إجمالي زواره حوالى مليوني شخص سنوياً. أول معرض كتاب أقيم في مصر أخذ من الجزيرة، دار الأوبرا حالياً، مكاناً له، لينتقل بعد ذلك إلى أرض المعارض في مدينة نصر، وفي عام 2018 انتقل المعرض إلى التجمّع الخامس. نشأت فكرة إيجاد معرض كتاب في مصر يوم الإثنين الواقع في 23 يناير (كانون الثاني) من عام 1969 عندما كانت القاهرة تحتفل بمرور ألف سنة على تأسيسها. اقترح الفنان عبد السلام شريف آنذاك على وزير الثقافة ثروت عكاشة فكرة افتتاح معرض كتاب في القاهرة كنوع من الاحتفال الثقافي في هذه المناسبة. أُعجب عكاشة بالفكرة وأسند مهمة تحضير معرض الكتاب والإشراف عليه للكاتبة سهير القلماوي. ومنذ ذلك الوقت، صار معرض الكتاب طقساً سنوياً يقام في آخر أيام شهر يناير من كل عام ويستمر لمدة أسبوعين.


تبدأ هذه السنة الدورة الخامسة والخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب. تغيرت الشركة المنظمِة التي اعتادت تنظيم المعرض ما جعل الناشرين يواجهون مشكلاتٍ جمّة منذ اليوم الأول. فقد وجدوا - على غير عادة - أجنحة لم يتم الانتهاء من نصب أعمدتها، أي الانتهاء من تحضيرها، ناهيك عن التأخر في تسليم الطاولات الخشبية التي يحتاجها كل جناحٍ على حدة لكي يعرض كتبه، فقد استلم القيّمون طاولاتهم يوم الأربعاء بدلاً من يوم الإثنين، أي قبل المعرض بيوم واحد. لن نتحدّث عن التأخير في تصاريح موقف السيارات، والتأخيرات في استلام أسماء العارضين، وارتفاع الأسعار، وتجمع مجموعات مختلفة من الناشرين بشكل شبه يومي وعلى مدار الساعة أمام مكتب الهيئة العامة للكتاب للحصول على حقوقهم التي سبق ودفعوا مستحقاتها المادية، بالإضافة إلى منع دور نشر معينة مثل دار «الكتب خان» وغيرها من المشاركة وإبلاغهم بهذا الأمر في اللحظات الأخيرة علماً أن تلك الدور سبق أن سدّدت المصاريف المستحقّة كافة واستوفت الأوراق المطلوبة. لكن ورغم هذه المشكلات والتعقيدات كلها لا يزال المعرض جارياً، وكلّ ناشر يستعدّ على طريقته للمشكلات القادمة.

معرض جديد في هيئة مول
الميزة الجديدة في معرض القاهرة الدولي للكتاب بحلّته الجديدة أي بعدما صار يقام في التجمع الخامس، هي تأسيسه بطريقة تشبه إلى حد كبير طريقة تأسيس المولات. هناك شعور بغياب الوقت، يمكنك أن تدخل إلى إحدى القاعات صباحاً وتمكث فيها طوال النهار تقريباً من دون أن تشعر بمرور الزمن. تحاول القاعة ابتلاع الجمهور وإبقاءهم داخلها لأطول وقت ممكن. القاعة كبيرة بل ضخمة، ثمة متاهات يتعرّض لها الزائر، هناك ممرات متوازية وأخرى ملتفّة فتمرّ على المكان الواحد أكثر من مرة من دون أن تدري. غير أنّ كل شيء موجود ومتوافر داخل هذه القاعة الواسعة: حمامات خاصة بالرجال، أخرى تخصّ السيدات، هناك مصلّى، ومطاعم، وكافيهات، وشركات شحن، وهناك أيضاً قاعة كبيرة مخصّصة للأطفال دائماً ما تكون مليئة بالأسر. هذه الخصائص كلها تهدف بالدرجة الأولى إلى إبقائك في الداخل لأكثر وقت ممكن.
يوفّر معرض القاهرة للكتاب كل ما يحتاجه جمهور القرّاء على تعدّد اختلافاتهم واهتماماتهم. كتبٌ في شتّى المجالات، ثقافية أو أكاديمية أو غيرها، متوافرة في معرض القاهرة بأسعار متفاوتة تبدأ من جينه واحد مثل الكتب الصادرة عن دور النشر الحكومية كـ«الهيئة العامة للكتاب»، و«الهيئة العامة لقصور الثقافة»، و«المجلس الأعلى للثقافة» - أحد إصداراتهم الأعمال الكاملة لبودلير، والأعمال الكاملة لرامبو ترجمة رفعت سلام وسعرها بضعة جنيهات حرفياً - مروراً بكتب أسعارها مخفّضة في مناسبة المعرض تعرضها بعض دور النشر. ولكن عموماً ستجد أسعاراً مرتفعة لقاء الكتب، في معظم دور النشر المصرية قد يبلغ سعر الكتاب الصغير الحجم مئة جنيه، وأسعار الكتب ذات الحجم الكبير أو «هارد كوفر» تراوح بين المئتي والألف جنيه. أما دور النشر العربية، فأسعار كتبها «فلكياً» إن جاز لنا القول، لأنّ سعر الكتاب يُحسب على قيمة الدولار، الآخذ بدوره في الارتفاع يوماً بعد يوم.
يسيطر الاستهلاك على كل شيء في حياتنا تقريباً. معرض القاهرة الدولي للكتاب قد يكون أحد تمظهرات سوق العرض والطلب، وغير بريء من عالم الاستهلاك، إلّا أنّه يبقى فرصةً جميلةً للقارئ الذي يفتّش عن الكتب، ولكي يجد العناوين التي يريدها. هو أيضاً فرصة حتى يتعرّف الإنسان إلى الكتب والعناوين وآخر الإصدارات، وقد تستميله ندوة أو عرض، المهم أنّ المعرض هو فسحة منعشة وسط القيظ الذي نعيش فيه.

كتب مهمة عليك اقتناؤها
معرض الكتاب فرصة سنوية مهمة لكل قارئ، ذلك بسبب وجود معظم دور النشر في مكان واحد وبأسعارٍ مغرية في كثير من الأحيان. بعض الإصدارات الحديثة مميزة وقد تهمّك عزيزي القارئ.
إذا مررت أمام دار «المرايا للثقافة والفنون» ستجد كتاباً صدر حديثاً هو « خمسون عاماً على نصر أكتوبر» من تحرير خالد فهمي. يضمّ الكتاب ثلاثة عشرة دراسة تتناول برمتها حرب 6 أكتوبر من نواحٍ مختلفة. والدراسات تراوح في منهجها ومداخلها بين التحليل الإستراتيجي للمعارك الحربية، وبين السير الذاتية للمقاتلين. كتاب آخر صادر عن الدار نفسها يحكي عن أحد أهم مخرجي سينما الثمانينات في مصر والوطن العربي، داود عبد السيد، عنوانه «سينما الهموم الشخصية»، للكاتب والشاعر علاء خالد. الكتاب بمنزلة قراءة تحليلية عميقة لسينما داود عبد السيد، ويضم أيضاً حوارات معه ومع سينماتوغراف أفلامه أنسي أبو سيف، والموسيقي العظيم راجح داود. تركّز الحوارات على تجربتهم في سينما داود عبد السيد التي ما زالت رائجة وتتابعها الأجيال الجديدة. لا ننسى أيضاً كتاب «المذاهب المسيحية والصراع الطبقي في العصور الوسطى الأوروبية» للفيلسوف الألماني كارل كاوتسكي بترجمة سعيد العليمي، والكتاب يقدّم تحليل كاوتسكي للكنيسة الأوروبية في القرون الوسطى، وعن الإقطاع وعن التمرّد اللذين جاءا ضدهما. كتاب مهم صادر عن دار «الشروق» هو «صحوة المحكومين في مصر الحديثة» للكاتب محمود حسين وترجمة محمد مدكور. يخوض محمد حسين في مفهوم الشرعية المقدسة التي يتمتع بها الحاكم، ويدرس تاريخ مصر الحديث متتبّعاً خطوات المصريين طوال القرنين الماضيين ومسيرة تحوّلهم من رعايا إلى مواطنين.
وكَوني من هواة الأدب والروايات، وفي حالة بحث دائمة عن الأدباء المغمورين الذين لم تلقَ أعمالهم الرواج المناسب، كان لي موعد مع أحد هؤلاء وهو الشاعر والروائي يوسف رخا الذي كان له حضورٌ هذه السنة في المعرض عبر روايته الحديثة «إنك ذاهب إلى بار» الصادرة عن «دار المتوسط». «إنك ذاهب إلى بار» هي الجزء الثالث بعد «التماسيح» و«باولو»، وهي رواية عن الموت والموسيقى وعن الإنسان الواقف طوال حياته على حافة الهاوية.
وفي حال زرت المعرض وتوقفت عند هذه الدار، احرص على شراء «الأعمال الشعرية الكاملة» للشاعر اللبناني أنسي الحاج، وبالتأكيد أعمال الكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو.