على مرّ العصور لم يُغلق الاستعمار الغربيّ عينه عن بلادنا. حدث ذلك إما تحت مسمّى الانتداب أو عبر الاحتلال المباشر كهدفٍ ناجع كان يلتقي دائماً باحتجاجاتٍ عربيّةٍ للانعتاق من العبوديّة الجليّة لأرباب استعمارهم، وكان مثل قطع «التمر» كلّما جاع البيت الأبيض تناولها. حتّى اعتبرت الحركات الصّهيونيّة أنّ الحدود أفضل حلٍّ لتقسيم بلادنا، ولزرع استراتيجيّاتٍ إمبرياليّةٍ لعرقلة سلامنا، نحن الذين صرنا بنظر بعض المؤرّخين انعكاساً للهمجيّة والجهل، ومن الطبيعي إذاً، احتلال الصهاينة لمنطقة الشّرق الأوسط «المتخلّفة» هذه. ومن رحمِ كلّ هذا، ولدت شعوبٌ كسرت صلَف المحتلّ ونَيره، وفسّرت كوابيسهُ بمعجمها الخاصّ، مُدركةً أنّ كلّ رعبٍ يتوحّش المستعمرُ في زرعِه سيُلاقيهِ سلاحٌ لا غصن زيتون، من أوّل انتفاضةٍ حتى التحرير المنتظر، فطالما هناك احتلالٌ هناكَ مُقاومة. وبالحديث عن وحشيّة المُحتلّ، ينبغي الوقوفُ عند مرحلةٍ مفصليّةٍ صادفناها جميعاً في كتب التاريخ المدرسيّة. عند انتهاء الحرب العالميّة الأولى عام 1914، حين قسّمت بريطانيا وفرنسا أملاك الدولة العثمانيّة المنهارة، في اتفاقيّة سريّة عُرفت بسايكس بيكو، هدفت إلى تقسيم العراق وبلاد الشّام لمناطق نفوذ بينهما، وكانت النتيجة التي لم نحفظها وقتها -من منّا كان يحبّ حصص التّاريخ؟- ولكنّنا أدركناها اليوم، حين رأينا أنّ الحدود سرابٌ والفعلُ المقاومُ فوق كلّ اعتبار.
(كيلي ريمستِن)

أدركنا عندئذٍ أنّ درس الحرب العالميّة الأولى في صفّ السّابع الأساسيّ كان يجبُ أن يُحفَظ، لا لشيءٍ سوى لاستبداله بالحدود التي رسمها الطوفان اليوم. فالنتيجة وقتها كانت احتلالاً بريطانياً لكل من فلسطين والأردن وجنوب العراق، أما عن سوريا ولبنان وشمال العراق فقد حاز عليهم الاحتلال الفرنسيّ. وتَبِعَ ذلك، وعدُ بلفور للحركة الصّهيونيّة، دعماً لإقامة «دولة» قوميّة للشعب اليهودي في فلسطين.
لم يكن الاستعمار الصّهيونيّ المتوحّش وليد وعد بلفور فقط. بل ظهر كطفلٍ عام 1882. طفل ربّته بريطانيا، وروَتهُ أميركا بدماء العراقيّين والسّوريّين والفلسطينيّين حتّى تستطيع بناء حضارةٍ مُزدهرة. فكيف ستبني أميركا حضارةً من دون دمٍ مسفوك؟ هُراءٌ لا يمكن حدوثه.
مئة سنةٍ تتبعُها خمسُ سنواتٍ من الرعب الذي زرعه المُستوطن الصهيوني ولا يزال في بلادنا، وتحديداً، في فلسطين. دأبت أثناءه حكومات الاحتلال وداعموها على التنظير لديموقراطيّة وحضارة إسرائيل، كوجهٍ وحيدٍ للتطور الغربيّ في الشّرق، لكن أضابير توحّشهم في القطاع اليوم فضحت مقولاتهم. «حيوانات بشريّة» يقولون عنا... إنها هواجسُ المُحتلّ، من سيحزنُ على قتل «حيوانٍ بشريّ»؟ من سيتجهّم على تقطيعِ أطرافِ غزّاويٍّ في قطاع غزّة؟ هذا السّلوك الإحلاليّ المُنطلق من مفهومٍ استيطانيّ متوحّش، امتدّ منذ النّكبة حتى اللحظة، التوحّش نفسه الذي يسعى إلى إبادة شعبٍ كاملٍ. أكثر من ثلاثين ألف شهيدٍ حتّى اللحظة. هذا السّلوك المُريع للاحتلال الإسرائيلي، ما هو إلّا امتدادٌ لسلوك الأنظمة الغربيّة الاستعماريّةِ في العالم، يتطابق مع تصرّفات القوى الإمبريالية في كل عصر، يسيرُ على غرار وحشيّة وإجرام النازية، والاحتلال الفرنسي في الجزائر، والأميركي في فيتنام والعراق وأفغانستان، وغيرها من التحركات الوحشيّة التي اعتمدت سياسة المجازر والحروب الشّعواء على الشّعوب المُستَعمَرة، كوسيلةٍ للهيمنة عليها وإخضاعها. لذا، ليس غريباً أن «يتوحّش» المُحتل. فالاحتلال بحدّ ذاته صفةٌ مُرعبة، انطلقت من سلوكٍ طبيعيّ يهوى سلبَ الحرّيّات والقهر والظّلم، مع التأكيد على النّظرة الدّونيّة للشّعوب الأخرى انطلاقاً من القناعة الداخليّة الواهمة بأنّ المُحتل أحقّ بالأرضِ من أصحابها، وإعادة رسم عقيدة عسكريّة راسخة قائمة على الإبادة الجماعيّة المُرعبةِ. قد يطرأ على خيالك بأنّ العدوّ تربّى على الوحشيّة المطلقة من دون أن يخاف، ولكن الأمر مُختلفٌ عن تصوّراتك، المُحتلّ يخاف، وهذا سببٌ كافٍ يجعلهُ ينتقم ويكون على هذا القدر من الوحشية ليخفي خوفه. هذا الضعف الذي يبدو جليّاً في تصريحات قادة الكيان مهما كانت الضّمانة المقدَّمَة إلى إسرائيل على طبقٍ من دماء الفلسطينيّين، بجواز الإبادة، وبالمعاقبةِ، عبر الحكومات التي وجدت أنّ سفك الدّم الفلسطينيّ أمرٌ طبيعيّ وليس دميماً.
الاستعمار فعلٌ مترامي الأطراف والمقاومة تُدرك كيف تُبتَر أطراف المُحتل. ذاك الذي بَترَ أطرافَ الطّفولة في غزّة، ولوّن بالدّم القاني عيونَ الثّكالى، واكتنفَ بالرُّعب قلوبَ الغزّاويّين، فإن لم يقتلهم بالقصف، ماتوا بالخوف. حربٌ شعواء، بدأت منذ أكثر من مئة سنة، أما ومنذ أكثر من مئة يوم، فقد جمعَ المُحتلُّ أساطيله ليغزُو شطآن مدائننا، جاوز طوره في الوحشيّة، أكثر من ألفَي مجزرةٍ ارتكبها جيش الاحتلال، أكثر من 11 ألف طفولةٍ مؤجّلة، أكثر من 7500 شهيدة، و63 ألف مصاب، وبعد. إنّ آلة الحرب الإسرائيليّة لا تقتلُ فقط، بل تحرص على القتلِ بوحشيّة. عوضاً عن قصف منزلٍ وقتل القاطنين فيه، تحرق إسرائيل المكان ثم تحيط به بدبّاباتها، كي تسيرَ بها فوق الرّكام، متسائلة «ماذا لو بقيَ أحدهم حيَّاً؟ فقد قتلتُهُم منذ أكثر من مئة عام، ومن كلّ موتٍ يولدونَ آلافاً». وفي سياق المسلسلاتِ المتوحّشةِ نفسها، تستنسخُ هذه الأخيرة أفكار هوليود، فقد ملّ جنودها من مشاهدة الأفلام المرعبة، وها هم يصنعونها بأيديهم. تترك آلة الحرب هذه طفلاً يموت متعذّباً، وتسرقُ آخر إلى الدّاخل المُحتلّ، ثمّ تدفُنُ أخاً تحت الرّكام وتُبقي آخر، وفي صورةٍ نشاهد أقرب عناقٍ بعيدٍ في العالم «حضنٌ يفصلهُ رُكام» ثمّ تزدادُ توحّشاً فتسرق جثامين الشّهداء، حتّى في الموتِ تخشى الفلسطينيّ. كلا ليس الفلسطيني الجيّد منهم من مات، بل من كلّ قطرة دمٍ سيولدُ عقلٌ مسلّحٌ آخر، يكتب بفحم جسده التاريخ القادم.