لماذا أراك في كل مكان؟
بينما تسير في ميدان رمسيس، في المنطقة المحيطة بجامع الفتح، سرعان ما سيعتاد بصرك على رؤية الكثير من اللافتات لصورة المرشّح الوحيد للرئاسة. حين تخرج من الميدان، وتركب «الميكروباص» متجهاً إلى مكانٍ آخر، فسترى أكثر من مائة لافتة للمرشح نفسه. وعندما تصل إلى المحطة التي قصدتها، ستستقبلك صورة المرشح نفسه عبر لافتات موجودة على أعمدة الكهرباء، في منتصف الشارع، معلّقة بين عمارتين سكنيتين، أو ستكون معلّقة على أعمدة خشبية منصوبة، مخصّصة لحمل تلك اللافتات. تبرز صورة المرشح الرئاسي علينا بشكلٍ مكرور. تظهره كشبحٍ يمتلك المدينة، وعندما يظهر فإنه يطلّ علينا من فوق، بملامح وجهه القاسية، اللامبالية.
منذ تولي النظام الحالي للحكم وهناك حالة سائدة من الجمود الذي يرى فيه النظام وسيلة من وسائل بقائه إلى جانب لجوئه للقمع عندما تستدعي الحاجة. يشير الكاتب والباحث سامر سليمان في كتابه «النظام القوي والدولة الضعيفة» إلى هذه النقطة تحديداً، شارحاً العامل الأساس في بقاء حكم حسني مبارك كل تلك المدة الطويلة. يقول سليمان: «هذا الهوس بتثبيت الأوضاع المؤسساتية ورفض التغيير يجب أن يُفهم باعتباره استراتيجية بقاء. التغيّرات المؤسساتية تعني أن العلاقات بين الأفراد والجماعات والمنظمات ستتغير، الأمر الذي ينتج بالضرورة حالة من التحرك والتعبئة». وبالتأكيد، إن أكثر ما يثير ذعر النظام مهما بلغت درجة قوته أو قدرته على البطش، هو كل صوت مغاير. هو حركة الشارع وتعبئته، وخروج أي تجمع ولو كان عدد الخارجين قليلاً.
في شهري يناير وفبراير ونهاية ديسمبر من كل عام -في آخر عشر سنوات تحديداً- ستجد مثلاً في ميادين القاهرة الرئيسية، وبخاصة ميدان التحرير وميدان رمسيس، انتشاراً واسعاً للمخبرين في الأرجاء كافةً. في تلك الأماكن تحدث مضايقات وانتهاكات يتعرض لها أيّ تجمع يضم الأشخاص، الشباب منهم تحديداً. يحدث ذلك في أخذ بطاقاتهم الشخصية، وتفتيش هواتفهم وحقائبهم، من دون أن تستطيع تحديد الهدف من وراء هذا التصرف أو فهم مبرراته. قد تشعر للوهلة الأولى أنّ اللهو والتسلية هما وراء هذه التصرفات، ولكن بالرغم من لا معقولية هذه التصرفات، وبالرغم من صفاقتها، فما عليك سوى أن تربط جأشك حتى تستطيع «النجاة» من الموقف، إذ إن أي محاولة اعتراض، أو حتى إظهار الامتعاض، ستؤدي بك حتماً إلى نتائج وخيمة.
واحدة من نوادر حالات «التعبئة» أي الخروج إلى الشارع في الماضي القريب، كان نهار الجمعة الواقع فيه 20 أكتوبر الماضي حين تجمع الناس بعد صلاة الظهر، وخرجوا إلى الميادين غاضبين، مندّدين، بما يحدث في فلسطين. ارتاب رجال الأمن في البدء يومها، لكنهم تركوا المتضامنين مع غزة يتظاهرون بعد أن شعروا بأنهم جزء من مسرحية النظام. لكن عندما خرجت التظاهرة عن المتوقع، وعندما رفعت لافتة أخرى بجانب علم فلسطين تعلن رفضها للتفويض وأخرى تندد بالنظام وتدعوا إلى العيش بحرية وعدالة، تجمّع رجال الأمن عندها وطوّقوا الميدان وفضّوا الحشد بالقوة. في فصل آخر من نفس كتاب «النظام القوي والدولة الضعيفة» يشرح سامر سليمان وسائل المحافظة على النظام الاستبدادي، إذ يقرّ بوجود وسيلتين لتحقيق هذا البقاء، أولهما السيطرة على عقول وأجساد المواطنين، وثانيهما في تحقيق تنمية اقتصادية تعطي شرعية للنظام السياسي. تتمثل السيطرة على عقول المواطنين بوجود كل هذه اللافتات في المدن، إذ ليس هناك من بديل آخر أمامك، هو مصير واحد ويجب عليك أن تتقبله، وبالتأكيد سيتم إغراق قنوات التلفزيون والراديو بإعلانات عن المشاركة في الانتخابات بحجة أنها ستنقذك من حاضرٍ أجوف وتؤمن لك مستقبلك ومستقبل أولادك وعائلتك. أما التنمية التي يشير إليها سليمان فتتلخّص في شقَّين: نفقات السيطرة السياسية ومنها ما يصرف على الأجهزة الأمنية، الإعلام، الثقافة، الشؤون الدينية. وأخرى تأتي كنفقات اجتماعية مثل دعم السلع الغذائية والتموين ما يعطي شرعية للنظام. ما أتسلّمه من بطاقة أسرتي في كل شهر يغطي نفقات الزيت والسكر والأرز، وقد انخفضت قيمته في السنوات العشر الماضية إلى ربع ما كنا نتسلّمه تقريباً. في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى مقر تسلّم السلع التموينية كانت في الشهر الماضي. رأيت امرأة تبكي تسند نفسها إلى الحائط، ويحاول العَم عصام أن يهدّئ من روعها في الوقت الذي يصرف بطاقات التموين لزبائنه، وبعد قرابة عشر دقائق، بعد أن هدأت تماماً، مسحت وجهها بالمحرمة وقالت: «الحاجات معادتش بتكفينا». وحملت حقيبتها ومشت.
تحت وطأة هذه الأوضاع الصعبة والمحبطة، فها أنتَ ترى صورة المرشح الرئاسي الوحيد كيفما مررت وأينما ذهبت. راجت في الأسابيع الماضية العديد من المنشورات الساخرة من تكرار اللافتات، وانتشارها في كل مكان، حتى تحوّل الموضوع إلى مادة خامّ للنكات والـ«ميمز» والقفشات. وربما هذه هي وسيلة الرفض الوحيدة التي نستطيع أن نمارسها. انتشر أيضاً فيديو لطيف لفتاة شابة أجنبية تعلّق ممازحة على انتشار تلك اللافتات التي تحمل صورة الشخص نفسه في كل مكان، ووجهت كلامها للرئيس قائلةً: «الناس تحبك، وصورتك في كل مكان، ولكن يمكننا الاستفادة من فلوس اللافتات في إزالة القمامة من الشوارع». ويظهر في الفيديو بجانبها لافتتين كبيرتين، يحيط بهما كمية من النفايات متجمعة على الأرض. وقد يكون هذا السكيتش دلالة كبيرة ستساعدك على فهم مدى سوء الوضع.
إنه من المثير للضحك فعلاً وجود أحياء كاملة تغيب عنها صورة واحدة لأي من المرشحين الآخرين اللذين ينافسان الرئيس. يمكنك أن توقف أي شخص في الشارع وتسأله عن أسماء المرشحين الآخرين للرئاسة، وأراهنك أنه لن يعرف اسم واحد من الأسماء الأخرى غير اسم الرئيس. بجانب موجة السخرية على كثرة اللافتات للرئيس الواحد الأوحد، والتي تأخذ من مواقع التواصل الاجتماعي ساحتها، فهناك موجة سخرية أخرى تدور حول ضعف الدعاية، وصغر حجم اللوحات للمرشحين الآخرين، خاصةً فريد زهران، الأمر الذي علّق عليه باسم كامل مدير حملته الانتخابية بأنهم وبسبب عدم قدرتهم على منافسة المرشحين الآخرين -وهو بالتأكيد يقصد مرشحاً معيناً- إلا أنهم استطاعوا التواجد وجهاً لوجه مع الناس، والخروج في حوالي ستة عشر تنظيماً جماهيرياً بحضور مرشحهم، وقد استطاعوا عقد عدد كبير من اللقاءات مع المثقفين المصريين والناشرين وقيادات دينية ونسائية والخ.
الشارع صامت كعادته. يائس. يتقبل التضخم الاقتصادي الذي يتزايد يوماً بعد يوم. يتقبل التردي الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ينخر عظام المجتمع المصري. إنّ أي محاولة للانتفاض، للخروج، للاعتراض، للتعبئة، لمجرد الوقوف بهاتف محمول باليد في ميدان التحرير سيعرضك للقمع، للسجن، وربما للاختفاء. لذلك، لا لزوم لوجود كل هذه اللافتات يا باشا، هو إحنا نعرف غيرك؟