في فصل ثقيل كفصل الصيف لا يفضّل كاتب هذه الكلمات أدوار البطولة حتى يبدأ الشتاء، وبالتالي يتجنب قراءة الملاحم والسير الذاتية ومشاهدة أفلام الأبطال الخارقين –هذه الأخيرة يتجنبها دائماً في الحقيقة- إذ تصيبه بتأنيب الضمير لأنه لم يكن أكثر بطولية ونشاطاً في هذا الفصل الحار رغم ملله وكآبته ونهاراته الطويلة. أتذكّر سؤال كونديرا الاستنكاري في روايته «البطء»: «لم اختفت لذة البطء؟ أين هم متسكّعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى؟» هذه الصيحة الغاضبة تتردد في عقلي عند كل صيف في محاولة لتهدئة الضمير، ومعها يخطر في بالي عدد من الفنانين الذين نقلوا حالة الكسل الوجودي التي تعترينا في أوقات الصيف. من هؤلاء على سبيل المثال المخرج الأميركي التجريبي جيم جارموش، الذي أعيد زيارة أفلامه عند كل صيف تقريباً من دون نيّة واضحة في الحقيقة، بل نداء خفي على الأرجح. يمكن بكل سهولة أن ندرك تطابق معظم شخصيات أفلام جارموش مع ما يقصده كونديرا في سؤاله عن البطء. عادتي في تكرار مشاهدة أفلام جارموش قادتني هذا الصيف لأعيد مشاهدة فيلمين له هما «The limits control» و«Only lovers left alive». أعدت من خلالهما تأمل متسكعي زمن جارموش الغابر، إذ إني أجد نفسي متسكعاً أيضاً، زميلاً لأبطاله، قد قرر ارتداء عباءة شاعر القبيلة.

على الهامش وخارج الزمن
واحدة من أبرز ردود الأفعال التي يمكن أن يقدّمها الجمهور تجاه الفيلم هو أن يتماهى مع إحدى شخصيات الفيلم. بمعنى أدق مقدرة صانع الفيلم على التعبير الصادق عن شخصية معينة تصدف أن تشبهك، فتتفاعل معها، لكن في تفاعلٍ يتفاوت مستواه وقد يبلغ درجة أكبر أو أقل وفق كل مشاهدة جديدة. فنانون قلائل استطاعوا صناعة شخصيات تبدو عابرة للزمن، ووجدوا مساحات جديدة بين البطولة والحياة العادية بين رحلة البطل وبين التسكّع. تظل هذه الشخصيات مثيرة، إذ تجد نفسك في لحظة تتأملها باعتبارها بطلة في فيلم وفي اللحظة التالية باعتبارها شخصية عادية، ترفض أن تكون بطلة في فيلم! وأحد أبرز من قدموا شخصيات كهذه هو بلا شك جيم جارموش.
يتناول فيلم (2013) «Only lovers left alive» اثنين من مصاصي الدماء: «آدم» (توم هيدليستون) و«إيف» (تيلدا سوينتون) في اللحظة التي يقرر فيها آدم الانتحار بعد أن عاش أكثر من 500 عام ليجد نفسه حبيس عالم ينهار، بينما تحاول حبيبته «إيف» التي عاشت أكثر من 2000 عام أن تثنيه عن ذلك. فكرة فانتازيّة ممتعة، يمكن أن تتخيل الدراما التي قد تخرج عن عباءتها. بالرغم من ذلك فالفيلم لا ينشغل كثيراً في فكرته الدرامية بقدر ما يبدو فيلم ما بعد أبوكاليبسي: لا مساحة ولا طاقة ولا رغبة في الحديث عن التمسك بالعالم لمدة 500 عام!
يستمر البطلان في طريقهما بكسل على هامش العالم، العالم الذي قرر «آدم» التخلي عنه بعد أن رأى انهيار الفن بشكل عام والموسيقى بشكل خاص. ورغم سريّة طبيعتهما اللابشريّة والمخاطر التي يمرون بها لإيجاد دماء جديدة يتغذّون عليها، إلا أن الفيلم خالٍ تماماً من أي شيء يهدد الشخصيات، فلا مخاطر، ولا أكشن، ولا مشاهد تقفز على أعصابك. حالة من الثبات الزمني والدرامي، ما يعزز ثقل ثبات الزمن وخروج شخصياتنا منه هو أن أعمارهم المديدة التي تقارب الخلود باتت في نظرهم بلا معنى، منتهية في عالم لم يعرف بعد أنه انتهى، فأصبح الخلود بالنسبة إليهم يساوي صفراً.


أما فيلم (2005) «The limits control» فنجد قاتلاً مأجوراً لا نعرف اسمه ولا أي تفصيل عن حياته، هو قليل الكلام، ينتظر فقط الأوامر التي يتلقاها من مجموعة من الشخصيات التي لا تحمل بدورها أسماء، حتى يصل إلى مهمته في النهاية. ورغم حبكة الفيلم التي تستدعي بالضرورة الكثير من مشاهد الأكشن، إلا أن الفيلم يخلو منها تماماً، إنه فيلم أكشن من دون أكشن، على هامش النمط الطبيعي لنوعه، فيلم أكشن استسلم أمام عالم ميت هو الآخر.
هنا أيضاً يبدو ثقل الزمن في استسلام الشخصيات لأقدارها أما حبكة الفيلم المطاطة مردها ليس إيقاعاً تصاعدياً محفِّزاً بل إيقاعاً من التكرارات، حيث تتشابه لقاءات بطل الفيلم، القاتل المأجور، مع شبكة العملاء التي توصله إلى هدفه في النهاية في الوقت الذي يتشابه نمط حوارهم مع اختلاف موضوع الحوار الذي نجده مستمداً من شخصية العميل. فنجد شخصية كل عميل مجرد صورة نمطية تلقي حواراً يتناسب مع هذا النمط، بينما يظل البطل بلا نمط معين بحيث ينزع عنه جارموش أي صلة بعالمه المحيط وأي مساحة للالتحام به.

أبطال بلا بطولة
ترفض أبطال جارموش عادة البطولة المنتظرة من أدوارهم أو المفروضة عليهم من حبكة الفيلم نفسها. هم يبدون كأبطال متقاعدين يحنون إلى زمن غابر، وهم على الأغلب، لا يجدون متعة في أدوار بطولة في زمن راهنيّ، هو زمنهم، الذي لا يقبلونه من الأساس. تبدو هذه السمة بالتحديد في الأفلام التي يفرض نوعها بطولة على الشخصيات فنرى مثلاً في فيلم (1995) «Dead man» ويليام بليك المحاسب المسالم الذي تفرض عليه مجموعة من المصادفات والأفخاخ القدرية أن يصبح بطلاً. تتكثّف الظروف المفروضة عليه وتحثه الشخصيات المحيطة به لكي يحافظ على ثباته وهو على طريق البطولة بينما هو رافض لهذه البطولة إلى آخر لحظة في الفيلم. وأيضاً في فيلم (1999) «Ghost dog: the way of the samurai» نجد قاتلاً مأجوراً من السود يعمل وفق قوانين الساموراي القديمة، ويعتبرها بمثابة كود أخلاقي في عالم جريمة لا يعرف الأخلاق. وحين تنقلب عصابته عليه يظل طوال الفيلم متمسكاً بعقيدة الساموراي كأنها روتينه المسالم. أما في فيلم The limits control» (2005)» نجد البطولة المنتظرة من القتلة المأجورين وقد وصلت إلى مرحلة روتينية عبثية، فيتخلى جارموش عن تلميع أبطال مزعومين، ويضع قاتله المأجور في حبكة مستقرة تنزع نفسها عن نوعها، لذا كان الفيلم مخيباً لآمال الجمهور الذي لم يستطع أن يفهم الفيلم أو يتواصل معه. يترك جارموش قاتله المأجور من دون هوية طوال الفيلم، نراه وهو يتدرب، أو وهو يزور أحد المتاحف ليتأمل لوحات معينة يبدو أنه يحبها، نراه وهو ينتظر المقابلات الجديدة التي تحمل مزيداً من التعليمات المتوقعة، إلا أنه لا يتحدث عن نفسه، لا يعبر عنها إطلاقاً، والكلمات القليلة التي يقولها طوال الفيلم هي مجرد ردود روتينية خالية من أي بطولة رنانة، حيث البطل يرفض الانخراط أيضاً في هذا العالم والدور المفروض عليه ويعتبره مجرد عمل ويفضّل البقاء على الهامش من دون بطولة.

الفن يكسر ثقل الزمن
بين محاولة انسحاب شخصيات جارموش من الواقع كنوع من الاعتراض، والرفض، وإيجاد حلول بديلة للوجود، تظل حلقة مهمة متصلة بينهم وبين هذا الواقع، وربما هي الصلة الوحيدة التي يتقبلون وجودها بينهم وبينه، وهي الفن. فنجد مثلاً فيلم (1989) «Mystery Train» الذي تلعب الموسيقى دوراً أساسياً فيه كموضوع أساسي في الحوار وكشبح يسيطر على خلفية معظم المشاهد عن طريق الأغاني التي تنطلق من الراديو طوال الفيلم. ووجود الخلفية الموسيقية في الفيلم الذي يدور في مدينة ميمفيس ليست، مجرد خلفية موسيقية لإبقاء الفيلم حيوياً، بل تبدو كأنها الشيء الوحيد الحيّ في المشهد والذي يُبقي هذه الشخصيات متماسكة ومتصلة، ولو نُزعَت من الفيلم ربما انهارت هذه الشخصيات وتركت الفيلم.
في «The limits control» تظل مشاهد بطل الفيلم وهو يتأمل اللوحات الفنية في المتحف هي المشاهد التي تبدو خارج سياق الحبكة، وكأنها التحركات الوحيدة التي نفذها بإرادته، التي قام بها من دون أن يتلقّى أوامر معينة بفعلها. ورغم أن تعابير وجهه لا تتغير بين مشاهد المتحف أمام اللوحات أو مع العملاء في انتظار الأوامر الجديدة، إلا أن مشاهد المتحف تظل صلته الوحيدة مع أرض الواقع، بعيداً من النمط الروتيني المفروض عليه. مشاهد لا تحتوي أبدًا على حوار لأن بطلها غير قادر على النطق بالشكوى، فقط التأمل في صمت.
وفي«Only lovers left alive» تكون أحد الأسباب الرئيسية لتخلّي «آدم» عن أبديته هو انحدار الموسيقى التي يتقنها ويؤلفها منذ مئات السنين، وتحوّل جمهور الفن إلى مجموعة من الزومبيز كما يصفهم. ربما المثال الأقوى على هذه العلاقة الأثيرة مع الفن تتمثل في فيلم (2016) «Paterson» حيث سائق حافلة يعيش حياة روتينية بسيطة، وجدول مواعيد لا يحيد عنه طوال الفيلم، ويبدو أنه مستسلم لهذا الروتين أما العنصر الحيوي الأساسي في حياته هو كتابته للشعر. يظل نمط حياة باترسون ثابتاً طوال الفيلم، لا يهز استقراره إلا تهديد أصاب علاقته مع الفن، يحدث ذلك في نهاية الفيلم، العلاقة التي ربما ساعدت في تحمّل ثقل الزمن والبطولة السرية الوحيدة التي يستطيع قبولها.