جذابة فكرة أن لمعنى الأثر، أثراً جميلاً، ذلك لأنه معنى تفاؤليّ، يولد بدون أن تدري به النفوس غالباً، فلا تشعر بمخاضه في الحال، ولا تشعر بسريانه في الحاضر من زمانها. هو كالشبح الذي يتبدّى كلما تقرّب من المستقبل. هكذا يفعل ما تظنه مضى، فالمرور العابر ليس مروراً عابراً دوماً، إنّه تحركٌ ثابت، يحيا بذاته ويحيا لذاتك، ولا حياة لذاته دون أن تحيا بذاتك. وكأنه تحرك فينومينولوجيّ متبادَل، وثباتٌ وجوديٌّ يعاند جحيم الآخرين ويجسّد ما قاله الشاعر الفرنسي أرثور رامبو: «أنا هو الآخر». إن «الآخر» هنا ذو بعدٍ الرمزي، فهو يتخطّى الوجود الفعلي للآخرين. الحبُّ كونه حبّ يصلحُ أن يكون «آخراً» في خمشِه، ولمسِه طالما يتركُ أثراً. والموتُ مثلاً، أوضح «الآخرين» رمزيةً. ومثلما أن الآخرينَ يبدون لسارتر جحيماً يعرقل التوق إلى تحقيق وجوديّة المرء، فإنّهم أنفسهم غنىً وثراء فكري ومعرفي وإنساني من وجهة نظر رامبو.

إن كتاب «الموت في الفكر الغربي» الثري والمؤثّر للمؤلّف جاك شورون، يدخل في جدال مشوّق حول تاريخ اكتشاف الإنسان للموت و حاجة الانسان لقرينه ليفهمه ويقبله. فالكتاب إذن يُقرأ كرحلة انتروبولوجية تقيم خيامها المعرفية حول الموت بوعي بدائي، لتنتقل بعدها بسلسلة شيّقة من الآراء والنظريات التي حاولت تفسير الموت في فترة تحوّلها من البدائية إلى التفكير الميتافيزيقي، في محاولات مستمرّة لمناقشة الخلود والفناء دينياً وفلسفياً وصولاً لدور مركزية الانسان (ومكانته الانطولوجية) في الحداثة وربط خلود الانسان بالإرادة والحرّية. لذا فهو كتاب يستعرض مفهوماً واحداً رافق -وما يزال- تاريخ البشرية عبر مسيرتها الطويلة بمفاهيم أخرى توسّع من مدارك أسئلته، وتنير مناطق خامدة كامنة في الذات الإنسانية: كيف تولّدت حتمية الموت عند الأوائل؟ وكيف خلقت جدلية الخلود والفناء؟ ما هو الموت أصلاً؟ هذه كلّها أسئلة عالجها المؤلّف في كتابه. لذا فهو كتابٌ يحكي عما دار من نقاشٍ بين المقابر والورود.


بعد موت أبي، أصبحتُ أكثر حساسيةً ووعياً بالموت، ولمثل هذا قد يخلق أيّ أثر، فكيف لو كان أثراً بحجم كتاب «الموت في الفكر الغربي» الذي يتحدّث من أولّه حتى منتهاه عن الموت ومعناه وجدواه وعبثيته. حصل أن قرأت هذا الكتاب قبل موت أبي بمدّة، فلم أخض فيه معنىً واضحاً، ولكن يبدو أثره منقوشاً في الوجدان والضمير دون أن أدري اعترائه لي إلا بعد وفاة أبي. ولذلك سُميَ أثراً، لا؟ فأعدتُ قراءته لأكتنزَ بصيصَ أملٍ يوصلني بالغائبين، لذلك هذا كتاب يقرأ كرجاء، ويُتلى على نيّة اطمئنان الحاضرين. كان مثيراً كيف أن البشر الأوائل لم يأبهوا بالموت إذ لم يكن الموت لازمة ضرورية للوضع الإنساني. فبرأيهم إن الموت يحلّ عرضياً، فهو ليس بحالة محتّمة، إنما حلوله يكون في النفس كحالةٍ طارئة لا تخضع للأسباب الطبيعية كالمرض والشيخوخة وتداعي أعضاء الجسد. فلم يعتقدوا أن أحداً يموت موتاً كاملاً، فالموت بالنسبة لهم ليس توقفاً خالصاً للنشاط والوجود كافّة، فالميت يحيا بينما هو ينتظر البعث. إن لامبالاة الإنسان البدائي بالموت ليست لامبالاة أبيقورية ورواقية كالتي عرّج عليها الكاتب في الفصول اللاحقة، ولكنها لامبالاة ترقى مع تطور العقل البشري لتتحول لسؤال حول الوعي بالموت و ما بعد الموت، أللفناء نمضي أم للخلود؟ هل الفناء مادي والخلود روحي؟ ما الفرق بين البعث والخلود؟
هكذا يمضي كتاب «الموت في الفكر الغربي»، في حلقة توسّع حلقة، وكأن الكاتب يستقصد في نهاية كل محور أن يرمي الحصى في نهر المحور الآخر. ما هو مثير في الكتاب هو المعالجة الجديّة للإجابة عن كيفية الإدراك الأوّلي للموت، فالموت بنظرهم، كان يُدرك عند معرفة أن الآخر قد مات. إن الجنس البشري في رأي فولتير هو الجنس الوحيد الذي يعرف أنه سيموت وهو يعرف ذلك من خلال التجربة. والقول بالتجربة حسب الكاتب جاك شورون، يضفي الغموض على حقيقة أنه لا بدّ من الوصول إلى مرحلة معينة من التطور النفسي والعقلي قبل أن يتعلّم الإنسان من التجربة. فإذا أتيحَ للبدائي الفرصة لمراقبة الناس وهم يموتون فوق ما أتيح للإنسان المتحضر، ومع عجز الانسان البدائي على ان يستخلص من هذه الملاحظات النتيجة الواضحة، فإنّ الانسان المتحضّر استطاع أن يكشف حتمية الموت عندما تجاوز العقلية البدائية. نشأة التفكير المنطقي واستنتاج قاعدة عامّة قوامها أن «البشر كلهم فانون»، تطلّب حسب لاندسبيرغ وجود الآخر. فيقول بأني عندما أشهد تجربة «موت رفيق»، وبصفة خاصّة موت كائن نحبّه، ندرك أن الوعي بضرورة الموت لا يستيقظ إلاّ من خلال المشاركة، ومن خلال الحبّ الشخصي الذي تصطبغ به هذه التجربة تماماً. لقد شكلنا نحن «ذاتاً مشتركة» مع الشخص المحتضر، ومن خلال تلك الذات المشتركة نسير نحو الوعي الحي بأنّنا لا بدّ أن نموت. إن احتضار العزيز يجعلني أستشعر الموت في قلب وجودي الخاصّ. لم يدرك «جلجامش» أنه سيموت الا عندما مات صديقه العزيز «أنكيدو»، فاكتشاف أن «جلجامش» نفسه مكتوب عليه أن يلقى نفس المصير وهو في خضمّ بحثه عن الخلود يسلّط الضوء على أن اكتشاف حتمية الموت عبر الآخر تؤدّي إلى صدمة عميقة، «فإذا ما متُّ أفلا يكون مصيري مثل مصير أنكيدو؟» (ملحمة جلجامش).
لربّما لم يعي الأوائل الموت إلا عبر تجربة موت عزيز عليهم، وإنّهم قد استعانوا بالآخر ليفكّروا في قلق وجودهم، لذا فأن أكون أنا هو «الآخر» فينبغي أن أكون أثراً في «الآخر»، يستحثّه لكي يكشط الضباب عن زجاج المعنى في شعوره وعقله. لبعض الكتب مثل هذا الأثر، ما قبله لا يشبه ما بعده، هناك انعطافة تدفعك للتخلي عما عايشته للمضيّ في اكتشاف بعد آخر فيما لم تعايشه مسبقاً. فالموت بالنسبة لي بعد فقدان والدي كان كافياً ليبعثر كلّ ما اعتقدته عن الموت من قبل موته. كان لهذا التبعثر أثرُه الذي أعادني مرّة أخرى لأقرأ الموت في كتاب «الموت في الفكر الغربي» ليقع في داخلي هذه المرة وقع السعادة في قلب فتى لحظة عثوره على هدية وسط القشّ. أثرٌ يجترُّ أخيه، في كلّ صفحات الكتاب، في كلّ لفظة الله، ولادة، موت، فناء، بعث، خلود، روح، نفس.. كان أبي حاضراً، أسقطتُ على موته ما زاد وقلّ من النظريات التي استعرضها المؤلّف، باحثاً عنه في جسدٍ ينحلُّ، وفي روحٍ تطفو، وفي ذرّاتٍ تتلاشى، في العود الأبديّ، وفي الولادة الأخرى، وأستنطق ما شفَّ وخفى من ثراء أجوبته عن أبي وأحواله ومكانه ومصيره. إنه كتاب يعطيك جوابك الخاصّ الذي تبحث عنه. يغنيكَ عن نمطية الجواب بنعم ولا على تقليدية السؤال: «هل إلى الزوال نمضي أم إلى الخلود؟» ليثريك بجواب مركّب يتجاوز الحالة النفسية نحو وعي يتقصد تفحّص الظاهرة. لقد كان لموت أبي الجرأة العالية في أن يعيدني لفتح هذا الكتاب.
فالموت هو العالِم الإجتماعي الأول، هو التعبير الجوهري الذي احتاج لتاريخ طويل ليبرهن على ضرورة «الآخر» للذات. وإن كان الحديث عن الموت وعن علاقة إدراكنا له بوجود الآخر، فإنّ للجحيم دوماً تمثّله. الملفت في معظم الأساطير التي تحدّثت عن الموت أنها شبّهته وشبّهتْ أبطاله بوصفهم نصف بشر ونص حيوان حيناً، وحيناً نصف إله ونصف إنسان. ربّما في رمزية كانت مسبقة لأوانها، أو لمجرّد خيال محض تستدعيه الحبكة، فما يهمّ حقّاً هو وجود تلك الثنائية بين الخير والشرّ، بين الإله/الإنسان، أو بين الإنسان/الحيوان، في دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار ماهيته. أخذاً بهذا الفهم، فإنّ ضرورة «الآخر» حسب قول رامبو تصبح مشروطة من وجهة نظرنا فيما اختاره الإنسان ليحقّق به وجوده. إن كل ما يحقق أثراً فهو موجود، تماماً مثلما أن وجود الأثر فينا هو الدليل الفعلي للوجود. إنّ هذا الكتاب ليس ورقاً وحبراً، إنّه كتاب موجود، أوجد نفسه عندما ترك أثره في داخلي. ودون ذلك فالجحيم هو من لا أثر له.
أبي أيضاً موجود كذلك، طالما موتُه كان العلّة الأولى للأثر، فالحاضر قد يكون غائباً إذا لم يترك أثراً فينا، وهناك من يكون بكامل هيبته ومرحّباً به دوماً في «حضرة الغياب». حقّاً ألا يرقى ذلك ليكون نظرية جديدة للخلود؟إذا كان هذا الكتاب يضعك في البدء أمام أسئلته الكبيرة، فإنه وبالقدر نفسه، يخلق فيك أسئلة أخرى. فأهم ما يرويه لكَ الكتاب أنّ الموت ليس بالظاهرة السهلة، وليس خياراً بين تورّطك بفهمها أو انكفاءك عنها، الموت هو السؤال المجبرين على طرحه وعلى الإجابة عليه. فما هو الموت؟ هو فقدان الأثر. ما هو العدم؟ هو الحاضر بلا أثر. وأبي هو الأثر والحاضر بأثره.
جمالية هذا الكتاب أنّه يغريك بالخوض في النقاش، ويعطيك قياسات نظرية تستطيع من خلالها أن تُقارب كلّ ما عداه بفهمٍ أشمل. ففي كتاب آخر ترك وطأته عليّ وكان له الأثر نفسه، هو رواية «شجرتي شجرة الربتقال» الرائعة للروائي البرازيلي خوسيه ماورو، الرواية التي اشتهرت بسبب أبعادها الإنسانية الكامنة في أحداثها، ثمّة مقطع به مناجاة وأسىً داخليّ، لقراءته فعل الأثر العميق في النفس ربّما أكثر من أثر مضمون الرواية كلها. فطالما كان موت أبي بالنسبة لي هو العلّة الأولى للأثر، فإنّ نسب كلّ ما يغذّي هذا الأثر لفكرة الوجود هو عملية وجودية بامتياز. للمقطع الآتي تأثير حقيقي في توليد معنىً آخر يُضاف لموت أبي.
بعد أن علم خوسيه أن والده سمعه بالصدفة يقول: «ما أشقى أن يكون للمرء أبٌ فقير..» حتّى شعر بالأسى وبتأنيب الضمير. «لقد كان أبي واقفاً ينظر إلينا، كانت عيناه واسعتين من الحزن.. هناك ألم بالغ، ألم فظيع في عينيه إلى درجة أنه لو أراد البكاء لما استطاع ذلك. رغبتُ في المغادرة جرياً باتجاه الشارع، أردتُ أنْ أتعلّق بساقي أبي وأنا أبكي، رغبتُ أن أقول له إنّني كنتُ سيئاً جدّاً». بعدها يقرّر خوسيه النزول إلى الشارع حاملاً صندوق مسح الأحذية في صبحية قدّاس الميلاد ليجمع المال بهدف أن يأتي بهدية ترضي والده، وبعد عناء جمع ما يكفي من اللمال لأن يهديه شيئاً بالرغم من بساطته ولكنه يحمل الكثير من الرموز. «كان الليل قد حلّ، وكانت هناك لمبة فقط مضاءة في المطبخ، وكان أبي جالساً أمام الطاولة وهو ينظر إلى الحائط، كان متّكئاً على الطاولة بينما أسند ذقنه على يده.
-بابا
-ماذا هناك يا صغيري؟ لم يحمل صوته أية ضغينة.
-انظر، اشتريتُ لك شيئاً جميلاً.
ابتسمَ، كان مدركاً كلّ ما كلّفني إياه ذلك.
-«دخّن واحدة بابا».
فتح الحزمة ونظر إلى «التبغ» مبتسماً ولكن من دون أنْ يتمكّن من قول شيء. توجّهتُ إلى الفرن لأخذ عود ثقاب، أشعلته وقرّبته من السيجارة التي وضعها في فمه. وابتعدتُ لكي أشهدَ أول نفسٍ. عندها حدث شيءٌ بداخلي. ألقيتُ بالكبريت على الأرض شعرتُ بأنّني أختنق. انفجرتُ من الداخل، انفجرت من ذلك الألم الكبير الذي كنت أجترّه طيلة اليوم. نظرت إلى بابا، إلى عينيه، إلى وجهه الملتحي. طغتْ شهقاتي على صوتي، فتح ذراعيه وشدّني إليه بحنان.
-لا تبكِ يا صغيري، ستحظى بالكثير من الفرص في الحياة كي تبكي إذا ما ظللتَ طفلاً عاطفياً لهذه الدرجة».
لم أر وصفاً شاعرياً للدخان كهذا من قبل. بالرغم من أن التدخين قتل أبي، ومع ذلك يبقى لهذا المقطع الأثر الذي يعزّز حضور الغائبين. إن الذكرى الخالية من الهمّ في سجلّها، هي أثرٌ نظيف كنظافة ضمير ترافيس في فيلم سائق التاكسي حينما سُئل عن سجلّه في الشرطة. وكلّ ذكرى تخصّ أبي هي ذكرى نظيفة، حتى ذكرى وفاته، ففيها كان الآخر الذي أحتاجه، ومن خلالها تجرّأتُ على معانقة الموت بوصفه وجوداً آخر.