سواء علمت أم لم تعلم أنّك في كلّ مرّة تخرج فيها إلى الشارع فأنت مُعرّض أن لا تعود. في كل مرّة تفتح باب منزلك لكي تدخل منه، يُسجّل اسمك في عداد الناجين. إن ملاك الموت، حاصد الأرواح، له «بَسطة» ينتقي منها ضحاياه: في كلّ حيّ فرعي وعلى أرصفة أوتوسترادات البلاد. لا أدري ما هو المُعدّل اليومي لحوادث السير في لبنان، ولا أدري كمية الضحايا التي تسقط كل يوم، لكن على الإنترنت يمكنك أن تجدها كمّاً وتفصيلاً، كوقائع يومية تُضاهي في سُرعة تجدُدِها نشرات الأخبار. المعلوم والثابت الوحيد، هو أن حوادث السير المميتة هي حدث يوميّ؛ كلّ يوم وفي كلّ ساعة ثمّة موت على الطُرقات.

جرّب أن تتجاوز الشارع في مستديرة ما، حيث «يوفّر» أصحاب الفخامة بعض الأموال من خزينة الدولة على حساب إضاءة إشارات المرور بشكل منتظم وجدّي، سترى عندها كيف تتحوّل ألعاب الكومبيوتر إلى حقيقة. جرّب أن تقود سيارتك في النفق الذي يربط ساحة الشهداء بشارع الحمرا، ستتعرف عندها إلى رائحة ملاك الموت، وعندما تخرج سالماً، ستقول له: «أراك في مناسبة أخرى».

من فيلم «seventh seal» للمخرج إنغمار برغمان

إن البنية التحتية في لبنان، وبالأخص أحوال الطرقات، في حالة مزرية يُرثى لها، وضعها وضعٌ جحيميّ لا يطاق. إسفلت الطريق بات يعرف ضحايا أكثر مما تعرفه حرب قائمة في مكان ما في العالم. حفريات من هنا وتعديات من هناك، وانعدام تنظيم وعتمة ومطبات عشوائية، ولا قانون سير ولا وزارة أشغال. لا شك أن الإنسان مُعرّض للحوادث دائماً، ولا يوجد ربما، غير القدر أو الله يمكنه منع ذلك، لكن في لبنان بات الأمر أشبه بحرب مقصودة بشكل أو بآخر، لأنه من غير المنطقي أن يكون الموت يومياً بسبب حوادث السير. وأيّ حديثٍ هذا؟ قد يبدو مجنوناً من يتحدّث عن المنطق، ويُحلل الأمور بناءً على منهجيّة موضوعية، وفوق ذلك يطلب استنتاجات منطقية من صُلب هذا العبث الثقيل. كأنك ترتفع عن الأرض بحبل يلتفّ حول رقبتك، حبل ينسدل من طائرة ورقية بينما قن ثور يحتكّ في زجاج النافذة تطلّ على كوكب آخر، ليله مُشمس، تقبع فيه كائنات بشرية لها ملامح شيطانية، تزبد وتضحك وتشدك نحو الأسفل للقضاء عليك ببهجتها المجنونة. شيء من هذا العبث المريض الذي ينتمي إلى عالم الكوابيس المُروّعة أصاب واقعنا.
توفي الصديق حسين الأسبوع الفائت بسبب «ريغارد» بلا غطاء موجود في شوارع بيروت بينما كان يقود دراجته النارية. حسين الذي أراد إغلاق «ريغارد» هذا البلد الكبير الذي لا يشبع من ابتلاع الضحايا، بسببٍ أو بدونه، تحوّل بنفسه إلى ضحية. توفي حسين وهو ليس أوّل من أخذهم ملاك الموت عن الطريق، ومع الأسف، لن يكون آخرهم، لأن المسؤول عن الفجوة الآخذة بالتوسع مجرم. كيف للمجرم أن يهتم بأحوال من هم على قيد الحياة؟
يعجز الميّت عن إحيائنا، وهذه قاعدة تؤثر على كل قطاعات البلد المجرم هذا. كل القطاعات الرسمية مقتولة هنا: التعليم، الطبابة، البنى التحتية، المُعاملات الرسمية، ناهيك بالطاعون الذي أصاب الوضع المعيشي والسوس الذي ينخر المرتبات فيُحيلها عدماً. من صفات الميّت أنه لا يسمع، لذلك فكل كلام، إن كان نابعاً منّي أو ممن يشتكي، مضروبٌ بعرض الحائط. توضع كل الشكاوى -إن كانت تخصّ الطُرقات أو وضع الجامعة اللبنانية أو مافيا أصحاب المولدات إلخ- في أقرب سلّة مُهملات. فمنذ متى كنا نحن، يا حسين، نُسمع؟ يعرف صديقي جيّداً أن الذين يقطنون في الطوابق العليا من السلّم الاجتماعي يسمعون بين الحين والآخر، بعض الهمهمات والصرخات والآهات من الأسفل، بعض أصوات النشيج وتكسّر الأظافر وصرير الأسنان، لكن دائماً ما يعتبرون أن ما يسمعونه أقرب ما يكون إلى مؤثرات صوتية تأتي مع آلة السحق التي لا تستريح، أي إنها أصوات لا بُدّ منها «في رحلة التطوّر»، كما اعتقد الفاشيون ذات مرة.
بعض الأرقام قد تُثري هذا النصّ قليلاً وتزيد من فجاعة الموقف، أي أن يعرف القارئ الكمّ الهائل من الأموال التي صُرفت في وزارة الأشغال من أجل «صيانة الطرقات». سيكون من الأفضل للأخير، أي للقارئ، أن يبحث عن ذلك في مكانٍ آخر. فأنا لا أهتمّ حقاً بما إذا كان الهدر ألف دولار من خزينة الدولة أو مليار دولار، الرقمان سواسية: التسوّس تسوس، إن نخر الضرس أو الأسنان الأمامية، أو بلداً برمته! بلد يأخذ من الموت ملاكه الحارس، يقتل كل الجميلين الذين نحبهم.